للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم؛ فحرم من أجل مسألته" (١).

واحتجوا أيضا بأنه - سبحانه - إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة، أو لغير حكمة، والثاني باطل؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨)} [الدخان: ٣٨]، وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)} [المؤمنون: ١١٥]، والعبث لا يجوز على الحكمة؛ فثبت أنها مخلوقة لحكمة، ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون؛ لعود النفع إليه - سبحانه - أو إلينا، والأول باطل؛ لاستحالة الانتفاع عليه - عز وجل-، فثبت أنه إنما خلقها؛ لينتفع بها المحتاجون إليها، وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان، فإن منع منه؛ فإنما هو يمنع منه؛ لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه، وذلك بأن ينهى الله عنه، فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة. (٢)


(١) أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، رقم الحديث: ٦٨٥٩، ج ٦، ص ٢٦٥٨. ومسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى الله عليه وسلم-، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع ونحو ذلك، رقم الحديث: ٢٣٥٨، ج ٤، ص ١٨٣١.
(٢) ثم ذكر أدلة القائلين بالمنع، ورد عليها، فقال: وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ} [الأنعام: من الآية ١١٩] وهذا خارج عن محل النزاع، فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه، أو حكم نوعه، وأما ما قد فصل وبين حكمه، فهو كما بينه بلا خلاف.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: من الآية ١١٦] قالوا: فأخبر الله - سبحانه - أن التحريم والتحليل ليس إلينا، وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه.
ويجاب عن هذا: بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم، بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله، كما تقدم، فلا ترد هذه الآية عليهم، ولا تعلق لها بمحل النزاع.
واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات". [أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، رقم الحديث: ٥٢، ج ١/ ص ٢٨. ومسلم في كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم الحديث: ١٥٩٩، ج ٣/ ص ١٢١٩] قال: فأرشد -صلى الله عليه وسلم- إلى ترك ما بين الحلال والحرام، ولم يجعل الأصل فيه أحدهما.
ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع.
فإن استدل به القائلون بالوقف؛ فيجاب عنه: بأن الله - سبحانه - قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الأدلة، وليس المراد بقوله: "وبينهما أمور مشتبهات" إلا ما لم يدل الدليل على أنه حلال طلق، أو حرام واضح، بل تنازعه أمران، أحدهما يدل على إلحاقه بالحلال، والآخر يدل على إلحاقه بالحرام، كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة. أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه.
واستدلوا أيضا بالحديث الصحيح وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" الحديث [أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- رب مبلغ أوعى من سامع، رقم الحديث: ٥٢، ج ١/ ص ٣٧. ومسلم في كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، رقم الحديث: ١٢١٨، ج ٢/ ص ٨٨٦.].
ويجاب عنه: بأنه خارج عن محل النزاع؛ لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة لمالكيها، ولا خلاف في تحريمها على الغير، وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده، ولم تصر في ملك أحد منهم، وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله - عز وجل - على تحريمها، لا بدليل عام ولا خاص، وكالنباتات التي تنبتها الأرض، ما لم يدل دليل على تحريمها، ولا كانت مما يضر مستعمله بل مما ينفعه. انظر: إرشاد الفحول ص ٦٤٣ - ٦٤٦.

<<  <   >  >>