للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[الدراسة]

استنبط الشوكاني (١) أن من كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن.

ووجه الاستنباط: أن الآية بينت أن بعض أهل الكتاب لو اؤتمن على قنطار (٢) فإنه يؤديه إلى من ائتمنه عليه، فدل بمفهوم الموافقة على أن هذا البعض لو اؤتمن على ما هو دون القنطار فإنه يؤديه أيضا؛ لأن العلة في تأدية القنطار هي الأمانة، وهي موجودة متحققة في تأديته لما هو دون القنطار المسكوت عنه.

وكذلك دلت الآية على أن بعض أهل الكتاب لو اؤتمن على دينار لا يؤديه؛ فدل بمفهوم الموافقة على أنه لو اؤتمن على ما هو أكثر من الدينار فإنه لن يؤديه؛ لأن علة عدم التأدية هي الخيانة وهي موجودة في المسكوت عنه وهو ما كان فوق الدينار.

فدلت الآية بمفهوم الموافقة على أن من كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن.

قال القرطبي: (ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير، أو منعه فذلك في الكثير أكثر، وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب، وفيه بين العلماء خلاف كثير مذكور في أصول الفقه) (٣).

وقال الطوفي: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يستشهد بها على مفهوم الموافقة، وهو ما يكون المفهوم فيه أولى بالحكم من المنطوق؛ لأن من يؤدي قنطارا أولى بأداء الدينار، ومن يمنع دينارا أولى بمنع القنطار، وهو من باب: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (٤) [الإسراء: ٢٣]. واعلم أن الحكم إما أن يستفاد من منظوم الكلام، وهو المنطوق، أو من مفهومه، وهو إما أن يكون أولى بالحكم من المنطوق وهو مفهوم الموافقة، أو لا يكون أولى به، وهو مفهوم المخالفة نحو: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)} [المطففين: ١٥] … وإلى هذه القسمة ترجع الألقاب الكثيرة نحو مفهوم الخطاب، ودليله، وفحواه، ولحنه، وما كان من ذلك (٥).


(١) واستنبط غيره من قوله تعالى: {إِلَّا … مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أن للطالب ملازمة المطلوب بالدين. انظر: أحكام القرآن للجصاص ج ٢/ ص ٢٩٩. وتعقبه ابن العربي بقوله: (تعلق به أبو حنيفة في ملازمة الغريم للمفلس، وأباه سائر العلماء، ولا حجة لأبي حنيفة فيه؛ لأن ملازمة الغريم المحكوم بعدمه لا فائدة فيها إذ لا يرجى ما عنده). أحكام القرآن ج ١/ ص ٣٠٤.
(٢) قال البغوي: (والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل). معالم التنزيل ج ١/ ص ٣١٧.
وقال ابن عثيمين: (والقنطار المال الكثير من الذهب، حدَّه بعضهم بألف دينار، وبعضهم بملء مسك الثور، يعني جلد الثور من الدنانير). تفسير سورة آل عمران ج ١/ ص ٤٢٤.
(٣) الجامع لأحكام القرآن ج ٤/ ص ١١٥.
(٤) وتمامها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣)}.
(٥) انظر: الإشارات الإلهية ج ١/ ص ٤١١.

<<  <   >  >>