للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قال الشوكاني -رحمه الله-: ( … والربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود، وقيل: الكل من اليهود لأن هذه الآيات فيهم، ثم وبخ علماءهم في تركهم لنبيهم فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا … يَصْنَعُونَ (٦٣)} وهذا فيه زيادة على قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا … يَعْمَلُونَ (٦٢)}؛ لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه، ولهذا تقول العرب سيف صنيع إذا جود عامله عمله، فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العمل. فوبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي.

فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم، ويفرجوا لها عن قلوبهم، فإنها قد جاءت فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغنى من جوع، بل هم أشد حالا وأعظم وبالا من العصاة، فرحم الله عالما قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أعظم ما افترضه الله عليه، وأوجب ما أوجب عليه النهوض به) (١).

[الدراسة]

استنبط الشوكاني -رحمه الله- أن العلماء التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد حالا وأعظم، وبالا من العصاة.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى وبخ العلماء التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعل المعاصي، فقال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)}، وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)}، والصنع أقوى من العمل؛ لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا (٢)؛ فظهر بذلك الفرق بين ذم متعاطي الذنب، وبين تارك النهي عنه، حيث جعل ذاك عملا، وهذا صناعة (٣)؛ فدل بدلالة التركيب بين الآيتين، وبطريق التأمل في خاتمة كلٍّ منهما على أن العلماء التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد حالا وأعظم، وبالا من العصاة.

قال البقاعي: (ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق. وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى السكوت عن الفاسقين فضلاً عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل، وتمرن عظيم، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها، وملكة لا يتكلفها، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ؛ لأن الشهوة تدعوه إليها، وذنب التارك للنهي راسخاً؛ لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك، بل معه حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي، فكان أشد حالاً؛ قال: {لَبِئْسَ مَا}، ولما كان ذلك في جبلاتهم، عبر بالكون فقال: {كَانُوا … يَصْنَعُونَ (٦٣)} أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم) (٤).


(١) فتح القدير ج ٢/ ص ٥٥، ٥٦.
(٢) انظر: التفسير الكبير ج ١٢/ ص ٣٤،
(٣) انظر: قطف الأزهار ج ٢/ ص ٨١٨.
(٤) نظم الدرر ج ٢/ ص ٤٩٦.

<<  <   >  >>