للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

٨ - في النهي عن القرب من الشجرة سد للذريعة (١) وقطع للوسيلة. (٢).

قال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)} البقرة: ٣٥.

قال الشوكاني -رحمه الله-: (والنهي عن القرب فيه سد للذريعة وقطع للوسيلة؛ ولهذا جاء به عوضا عن الأكل. ولا يخفي أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل؛ لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه، فالأولى أن يقال: المنع من الأكل مستفاد من المقام) (٣).

[الدراسة]

استنبط الشوكاني (٤) -رحمه الله- من النهي عن القرب من الشجرة قاعدة سد الذرائع.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى علق النهي بقربان الشجرة عوضا عن الأكل، فدل ذلك بدلالة تأمل علل أفعال الله تعالى على قاعدة سد الذرائع، إذ علة النهي تدل على سد الذريعة وقطع الوسيلة.

والنهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل، إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله، بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب، وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى، وهي: قوله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)} [الأعراف: ٢٢]، ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)}، فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة، لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل، وسائر الانتفاعات. ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة (٥).


(١) سد الذرائع يعني منع الوسائل الجائزة في الأصل التي تقرب إلى الحرام. انظر: أمالي الدلالات لابن بيه ص ٥٨٤. والذَّرَائِعُ جمع ذَّرِيعة، وهي في اللغة: الوسيلة. وقد تذَرَّعَ فلان بِذَرِيعةٍ أَي توسَّل. انظر: لسان العرب (مادة: ذرع) ج ٨/ ٩٦. وقد غلب على الفقهاء والأصوليين استعمال الذرائع بمعنى الوسائل المباحة في ظاهرها الموصلة للمحرم. قال ابن تيمية: (والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم- ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة- ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم). الفتاوى الكبرى ج ٣/ ص ٢٥٦. ولذا نجد الشاطبي عرَّفها بقوله: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة. انظر: الموافقات ج ٤/ ص ١٩٩.
وقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وكذلك الآثار عن السلف الصالح على اعتبار قاعدة سد الذرائع، فسد الذرائع مقصد من مقاصد الشريعة. وسد الذرائع يدور مع المصلحة والمفسدة وجودا وعدما، فمتى كانت المصلحة غالبة أو متحققة عمل بالمصلحة، ومتى كانت المفسدة غالبة أو متحققة عمل بالمنع منها، ولا عبرة للذرائع إذا كانت تؤدي إلى مفسدة قليلة أو نادرة. انظر بحث: سد الذرائع وعلاقتها بمقاصد الشريعة للدكتور محمد المقرن ص ١٠١ - ١٠٢. وللاستزادة في قاعدة سد الذرائع ينظر: البحر المحيط للزركشي ج ٦/ ص ٨٢ - ٨٦، وإعلام الموقعين ج ٣/ ص ١٣٥ وما بعدها، وإرشاد الفحول ص ٥٥٧ - ٥٦٠.
(٢) وهو استنباط أصولي.
(٣) فتح القدير ج ١/ ص ٦٨.
(٤) واستنبط بعض المفسرين من الآية استنباطات أخرى، منها:
١) أن سكنى آدم -عليه السلام- وزوجه الجنة لا تدوم. ووجهه: أن المخلد لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يمنع من شيء. انظر: البحر المحيط ج ١، ص ٢٣٠، وجواهر الأفكار ص ١٧٣، وتفسير حدائق الروح والريحان ج ١/ ص ٣١٧.
٢) العالِم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء. ووجهه: أن الله أمر آدم -عليه السلام- وزوجه بسكنى الجنة بعد أن بين سبحانه للملائكة فضل آدم -عليه السلام- في العلم. انظر: التحرير والتنوير ج ١/ ص ٤١٣.
٣) أن الأمر يأتي للإباحة. ووجهه: أن الله تعالى أمرهما بالأكل، ثم خيرهما أن يأكلا من أي مكان، فقال: {حَيْثُ شِئْتُمَا}؛ فدل على أن الأمر للإباحة، وإن كان الأصل في الأمر الطلب حتى يقوم دليل على أنه للإباحة. انظر: تفسير سورة البقرة لابن عثيمين ج ١/ ص ١٣٠.
٤) في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} حجة في اختصار الكلام، وإشارة للمعنى. ووجهه: لإحاطة العلم بأنهما لم ينهيا عن الدنو إنما نهيا عن الأكل منها، فلما لم يوصل للأكل إلا بالاقتراب منها؛ استغنى به من ذكر الأكل. انظر: نكت القرآن للقصاب ج ١/ ص ١٠٨، ١٠٩.
(٥) انظر: التفسير الكبير ج ٣/ ص ٦، واللباب في علوم الكتاب ج ١/ ص ٥٥٩.

<<  <   >  >>