للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[الدراسة]

استنبط الشوكاني -رحمه الله- من الآية مناسبة ذكر الرأفة بعد ذكره سبحانه البائعين أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه، والمناسبة أنه أوجب عليهم ما أوجبه؛ ليجازيهم، ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم، ولطفا لهم.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى ذكر صنفين من أصناف الناس، مذموم، وممدوح.

فالأول: منافقون يُشهدون الله على ما في قلوبهم من محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو الإسلام، وهم كاذبون شديدو الخصومة، يدل على ذلك أنهم يسعون في الأرض فسادا، وإذا ذُكِّروا بالله حملتهم العزة على الإثم.

والصنف الثاني: موفقون يشرون أنفسهم، أي: يبيعونها ابتغاء مرضاة الله، كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم ذكر الله تعالى بعد الصنف الثاني أنه رؤوف بالعباد؛ فدل ذكر الرأفة هنا بدلالة الربط بين الآية وخاتمتها على أنه أوجب عليهم ما أوجبه، ومدح المستجيبين لأوامره؛ لرأفته سبحانه تعالى بهم، فمن الرأفة أن يعرضهم للثواب، ويدلهم على طرق تحصيله، وإن كان فيه مشقة ظاهرة، لكن عواقبه إلى خير.

ورأفته سبحانه كما تكون في التخفيف على العباد في حالة ضعفهم ونقص قوتهم؛ تكون في تغليظ الفرائض في حالة شدة قوتهم (١).

وممن قال بهذا الاستنباط: البيضاوي، وأبو السعود، البروسوي، والقنوجي. (٢).

وذكر ابن عاشور وجها آخر، فقال: ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله، وجعلوا أنفسهم عبيده، فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده، فإن كان (مَنْ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى: والله رءوف بهم، فعدل عن الإضمار إلى الإظهار؛ ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادا له (٣).

ونبه الشيخ الدوسري إلى وجه ثالث لمناسبة ذكر الرأفة هنا فقال: (وفي قوله تعالى: عدة فوائد واعتبارات:

أحدها: أنه لا يلزم من بيع الإنسان نفسه ابتغاء مرضاة الله أن يحرم نفسه من ملذات الدنيا أو يهجرها، فهذا شيء مبتدع في الدين، مخالف لرأفة الله بعباده.

ثانيها: أن من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله لا يتهور حتى يلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يسلك الحكمة المطلوبة بتقدير الأمور مقاديرها، وتنزيلها منازلها اللائقة بها، إذ ليس المقصود من ذلك إهانة النفس وإذلالها، وإنما المراد أن يسلك بها مسالك العزة والكرامة.


(١) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي ج ١١/ ص ١٥٤.
(٢) انظر: أنوار التنزيل ج ١/ ص ٤٩٢، وإرشاد العقل السليم ج ١/ ص ٢١٢. وروح البيان ج ١/ ص ٣٢٧، وفتح البيان ج ١/ ص ٤١٨.
(٣) انظر: التحرير والتنوير ج ٢/ ص ٢٥٨.

<<  <   >  >>