للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[سورة العنكبوت]

١٧٤ - النظر في حال الدواب مما يعين على الصبر والتوكل (١).

قال تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)} العنكبوت: ٥٩ - ٦٠.

قال الشوكاني -رحمه الله-: (ثم وصف هؤلاء العاملين فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا} على مشاق التكليف وعلى أذية المشركين لهم، ويجوز أن يكون منصوبا على المدح ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل، وهو النظر في حال الدواب. فقال:

{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ومعنى لا تحمل رزقها: لا تطيق حمل رزقها لضعفها ولا تدخره وإنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم، فكيف لا يتوكلون على الله مع قوتهم وقدرتهم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها) (٢).

[الدراسة]

استنبط الشوكاني -رحمه الله- أن النظر في حال الدواب مما يعين على الصبر والتوكل.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى أثنى على من صبر وتوكل عليه، ثم ذكر عقب ذلك حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم، والمقصود بيان أنهم أولى بالتوكل على الله مع قوتهم وقدرتهم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها؛ فدل بدلالة الربط بين الآيتين على أن النظر في حال الدواب مما يعين على الصبر والتوكل.

قال ابن عادل: (لما ذكر الله {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)} ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم) (٣).

وقال ابن عاشور: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)} عطف على جملة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: من الآية ٥٧] (٤) فإن الله لما هون بها أمر الموت في مرضاة الله، وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم: إنا لا نخاف الموت، ولكنا نخاف الفقر والضيعة. واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: من الآية ٣١] (٥) فأعقب ذلك بأن ذكرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم. وضرب لهم المثل برزق الدواب، وللمناسبة في قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: من الآية ٥٦] (٦) من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها، وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)} (٧).


(١) وهو استنباط تربوي سلوكي. وهو استنباط في علوم القرآن أيضا (لتعلقه بالمناسبة).
(٢) فتح القدير ج ٤/ ص ٢١١.
(٣) اللباب في علوم الكتاب ج ١٥/ ص ٣٧٢.
(٤) وتمامها: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧)}
(٥) وتمامها: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (٣١)}
(٦) وتمامها: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)}
(٧) انظر: التحرير والتنوير ج/ ص ١٩٦، ١٩٧.

<<  <   >  >>