للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأما ما احتج به المانعون، من أنه -صلى الله عليه وسلم- لو جاز له الاجتهاد; لجازت مخالفته، واللازم باطل.

وبيان الملازمة: أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد، ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة، إذ لا قطع بأنه حكم الله; لكونه محتملا للإصابة، ومحتملا للخطأ، فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاده يكون له حكم اجتهاد غيره، فإن ذلك إنما كان لازما لاجتهاد غيره، لعدم اقترانه بما اقترن به اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- من الأمر باتباعه.

وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لما تأخر في جواب سؤال سائل، فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن; لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده، على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب، والنظر فيما ينبغي النظر فيه في الحادثة، كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين.

الثالث: الوقف عن القطع بشيء من ذلك (١).

قال الشوكاني- بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة، وأدلتها والرد عليها-: (ولا وجه للوقف في المسألة; لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع، على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} فعاتبه على ما وقع منه، ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه) إلى أن قال: (ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع، أو التوقف لأجلها) (٢).

فلا شك في ترجيح قول الجمهور؛ لقوة أدلتهم، ولوقوع الاجتهاد من النبي -صلى الله عليه وسلم- عمليا، ولأن أدلة المخالفين لم تسلم من الاعتراض والنقد (٣).

٩٤ - مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور (٤).

قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)} التوبة: ٤٣.

قال الشوكاني -رحمه الله-: (وفيها أيضا دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور) (٥).

[الدراسة]

استنبط الشوكاني من الآية مشروعية الاحتراز عن العجلة، والاغترار بظواهر الأمور.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى عاتب نبيه -صلى الله عليه وسلم- على التعجل في الإذن لبعض المنافقين الذين عزموا على القعود فقالوا: إن أذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن لنا قعدنا (٦)، فعاتبه الله على ترك الأولى والأفضل الذي هو تأخير الأذن حتى يظهر كذبهم، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة. ولما كان العتاب على التعجل دل ذلك على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور؛ إذ كل فعل عتب عليه الشارع فهو دليل على المنع منه، والحث على ضده.


(١) وهو اختيار الغزالي وغيره. انظر: البحر المحيط للزركشي ج ٦/ ص ٢١٥، وإرشاد الفحول ص ٥٧٩.
(٢) انظر: إرشاد الفحول ص ٥٧٩.
(٣) انظر: الوجيز في أصول الفقه الإسلامي ص ٣٤٨.
(٤) وهو استنباط تربوي.
(٥) فتح القدير ج ٢/ ص ٣٦٥.
(٦) عن مجاهد قال: ناس قالوا: استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا). أخرجه الطبري في جامع البيان ج ١١/ ص ٤٧٨، وابن أبي حاتم في تفسيره ج ٦/ ص ١٨٠٥. وانظر: الدر المنثور ج ٤/ ص ٢١٠، ٢١١.

<<  <   >  >>