للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أما المعذور الذي ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازم عليه عزما تاما، فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل الله.

قال السعدي: (فمن كان من أولي الضرر راضيا بقعوده، لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع ولا يحدث نفسه بذلك؛ فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر. ومن كان عازما على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك، ويحدث به نفسه؛ فإنه بمنزلة من خرج للجهاد؛ لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل) (١).

٥٧ - الحث على الهجرة (٢).

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨)} النساء: ٩٧ - ٩٨.

قال الشوكاني -رحمه الله-: (وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف فكيف من كان مكلفا.

وقيل: أراد بالولدان المراهقين والمماليك) (٣).

[الدراسة]

استنبط الشوكاني (٤) -رحمه الله- من الآية تأكيد أمر الهجرة.

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى ذكر وعيده لمن تركوا الهجرة، ثم استثنى أهل العذر المستضعفين من الرجال وضعفة النساء والولدان، فذكر الولدان مع أنهم غير مكلفين بالهجرة؛ فدل ذلك على أنها تجب لو استطاعها غير المكلف فكيف من كان مكلفا.

والمقصود وجوبها على من لم يكن متمكنا من إقامة الدين (٥).


(١) تيسير الكريم الرحمن ص ١٩٥.
(٢) وهو استنباط فقهي.
(٣) فتح القدير ج ١/ ص ٥٠٥.
(٤) واستنبط السعدي من قوله تعالى: {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨)} التنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما -مما يحتاج إلى سفر- من شروط الاستطاعة، ووجهه: القياس على الهجرة. انظر: تيسير الكريم الرحمن ص ١٩٦.
(٥) ذكر ابن عاشور أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، ثم ذكر ستة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر، فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة ٩٠٢ وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة ١٠١٦.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية.
وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب. وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرنسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب، وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملا صالحا وآخر سيئا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلا. هذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب. وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية. انظر: التحرير والتنوير ج ٤/ ص ٢٣٥، ٢٣٦.

<<  <   >  >>