للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى ذكر في قبول توبة المحارب قيدا هو توبته قبل القدرة عليه والظفر به؛ فدل مفهوم مخالفة- مفهوم القيد- على أن من تاب من المحاربين بعد القدرة عليه لا تسقط عنه العقوبة.

قال البيضاوي: (وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد، وإن أسقطت العذاب. وأن الآية في قطاع المسلمين؛ لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها) (١).

وقال السعدي: (ودل مفهوم الآية على أن توبة المحارب ـ بعد القدرة عليه ـ أنها لا تسقط عنه شيئا، والحكمة في ذلك ظاهرة) (٢). لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن يُنَكِّل بهم فلم تقبل توبتهم كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب (٣).

وممن قال بهذا الاستنباط أيضا: السيوطي، والآلوسي، والقنوجي، والشنقيطي. (٤).

وفي اختلاف حكم المحاربين التائبين قبل القدرة عليهم عن حكم التائبين منهم بعد القدرة عليهم والظفر بهم -مع استحقاق كُلِّ للعقوبة- فتحٌ لباب التوبة، وحث المحاربين عليها؛ فإن في إسقاط العقوبة عن المحاربين التائبين قبل القدرة عليهم دعوة لهم للتوبة.

وهذا الاستنباط فيه تأصيل لما يسمى اليوم بالتحفيز المناسب، حيث إن التحفيز أنواع، وتتوقف جدواه على معرفة ما يحتاجه المحَفَّز، وهنا تظهر حاجته إلى العفو عن الحد أكثر من أي شيء آخر (٥).

٦٤ - مناسبة الشروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر؛ لأن موالاتهم نوع من أنواع الردة (٦).

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)} المائدة: ٥١ - ٥٤.


(١) أنوار التنزيل ج ٢/ ص ٣٢١.
(٢) تيسير الكريم الرحمن ص ٢٣٠.
(٣) انظر: الجامع لأحكام القرآن ج ٦/ ص ١٥١.
(٤) انظر: (الإكليل ج ٢/ ص ٦٣٢، وتفسير الجلالين ص ١٢٢)، وروح المعاني ج ٦/ ص ١٢١، وفتح البيان ج ٣/ ص ٤١١، وأضواء البيان ج ١/ ص ٣٠٥.
(٥) انظر: استنباطات الشيخ عبد الرحمن السعدي من القرآن الكريم عرض ودراسة ص ٤٦٦.
(٦) وهو استنباط في علوم القرآن (لتعلقه بالمناسبة) من وجه، وهو أيضا استنباط عقدي من وجه.

<<  <   >  >>