فأولها: تعارض مصالح غالبة أو راجحة على المفاسد، فحينها يطلب تحصيل المصلحة، ولا يلتفت إلى ما فيها من مفسدة.
ومثال ذلك الجهاد في سبيل الله فيه قتال ينتج عنه قتل النفس وتلفها، وهو لاشك في كونه مفسدة، ولكن كتب القتال على المؤمنين بالنظر إلى ما يترتب عليه من مصالح تربو على ما فيه من مفاسد. فالقتال في سبيل الله يحقق مصالح جمّة من أهمها حماية الدين، والدّفاع عن أرض المسلمين من أن يطأها العدوّ، وحماية أعراض المسلمين من أن تنتهك، والاعتداء على المستضعفين من النساء والرجال والولدان. فلا شكّ أن هذه المصالح تفوق مفسدة القتل وتربو عليها، ناهيك عن أنّ الجهاد متعلق بمقصد حفظ الدين، والقتل متعلق بمقصد حفظ النفس، وحفظ الدّين مغلّب على حفظ النفس عند التعارض فكانت مصلحة الدين مقدّمة على مصلحة النفس.
وثانيهما: تعارض مفاسد غالبة أو راجحة مع تحصيل مصالح مرجوحة وجلبها، فحينها يقدّم درء المفسدة، ولا يلتفت إلى جلب المصلحة. فالمفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة فرفعها هو المقصود شرعا، ولأجله وقع النهي.
ومثال ذلك ما ورد في التنزيل من تحريم الخمر دفعا لمفاسدها حيث نصت الآية النازلة في هذا الصدد على أنّ الخمر فيها منافع (مصالح) ومآثم (مفاسد)، ولكن المفاسد غالبة أو راجحة على المصالح فكان حكمها في الأخير التحريم بناء على أنّ درأ المفسدة مقدّم على جلب المصلحة. فالخمر قد تحقق منافع مثل النشوة وتحصيل المال من جراء بيعها والمتاجرة بها، ولكن هذه المصالح التي تجلبها الخمر لا تقوى أمام المفاسد المترتبة على شربها مثل إدخال الضرر على العقل، ووقوع العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتضييع الحقوق وغيرها من المفاسد التي هي أعظم بكثير من جلب ما فيها من منافع، وأنّ المصالح المجتلبة بشرب الخمر لا تعدّ شيئاً إذا ما تمّ مقابلتها بما يترتب عليها من مفاسد وأضرار.
والحاصل أنّ أهمّ ضابط في إعمال قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" هو غلبة أو رجحان المفسدة المدفوعة على المصلحة المجتلبة، أو في حال تساوي المصلحة والمفسدة. (١).
قال الشنقيطي: فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع؛ لحديث:"لا ضرر ولا ضرار"، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وإن كان النفع أرجح فالأظهر الجواز؛ لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة.