للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

٧٣ - الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه (١).

قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)} الأنعام: ١٠٨.

قال الشوكاني -رحمه الله-: (وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه، وما أنفع هذه الآية، وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله، المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم والبكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه، وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه، وفعلوا غيره من المنكرات عنادا للحق، وبغضا لاتباع المحقين، وجراءة على الله سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة، وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين، المتهاونون بالشرائع، وهم شر من الزنادقة؛ لأنهم يحتجون بالباطل، وينتمون إلى البدع، ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام، وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم، ويتم باطلهم، وكفرهم نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل) (٢).

[الدراسة]

استنبط الشوكاني (٣) أن الداعي إلى الحق، والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه.


(١) وهو استنباط في الدعوة واستنباط عقدي.
(٢) فتح القدير ج ٢/ ص ١٥٠.
(٣) واستنبط غيره من الآية استنباطات أخرى، منها:
١) أن في الآية تأديبا لمن يدعو إلى الدين لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها. انظر: التفسير الكبير ج ١٣/ ص ١١٥، ١١٦.
٢) في قوله تعالى: {كَذَلِكَ … زَيَّنَّا} نكتة سرية، وهي أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض، فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة، فإن المعاصي سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة ما تستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة، وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة لذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، فأعمال الكفرة قد برزت لهم في النشأة بصورة مزينة يستحسنها الغواة ويستحبها الطغاة، وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة، فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا؟. فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها، لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي، فليتدبر. انظر: إرشاد العقل السليم ج ٣/ ص ١٧٢.

<<  <   >  >>