للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الثالث: أنه أثنى في كتابه (البدر الطالع) على كتاب البقاعي (١) (نظم الدرر) عند ترجمته له بقوله: (ومن أمعن النظر في كتاب المترجَم له في التفسير، الذي جعله في المناسبة بين الآي والسور؛ علم أنه من أوعية العلم، المفرطين في الذكاء، الجامعين بين علمي المعقول والمنقول. وكثيرا ما يشكل علي شيء في الكتاب العزيز فأرجع إلى مطولات التفاسير ومختصراتها، فلا أجد ما يشفي، وأرجع إلى هذا الكتاب فأجد ما يفيد في الغالب) (٢). فهذا النص دال على أن الشوكاني أخذ عن البقاعي كثيرا، فقول الشوكاني: (فأجد ما يفيد في الغالب) دال على أنه يرتضي غالب ما عند البقاعي، لكنه يدل أيضا على أن بعض ما عند البقاعي لا يرتضيه الشوكاني ربما للتكلف فيه.

والشوكاني لم يكتف بالأخذ عن البقاعي بل استنبط مناسبات لم يذكرها البقاعي مما يدل على اعتنائه بذكر المناسبات. ومن المناسبات التي ذكرها الشوكاني ولم يذكرها البقاعي: مناسبة ختم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)} [آل عمران: ١٢٩] بأن الله غفور رحيم. قال الشوكاني -رحمه الله-: (وفي قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)} إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه، وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل، وأحبه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل) (٣).

أما كلامه الشديد الذي ظاهره رد المناسبات، وهو قوله: (اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره، ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قبضه الله عز وجل إليه، وكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالا، وتحليل أمر كان حراما، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحينا في عبادة، وحينا في معاملة، ووقتا في ترغيب، ووقتا في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطورا في أمر دنيا، وطورا في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف؛ فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار، والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفا محضا، وتعسفا بينا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة. هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة؛ فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلا عن المطولة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)} [العلق: ١]، وبعده {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ … (١)} [المدثر: ١] {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)} [المزمل: ١] وينظر وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف، وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخرا، وتأخر ما أنزله الله متقدما، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا، وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس. وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحا، وأخرى هجاء، وحينا نسيبا، وحينا رثاء، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد، والخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء، وما يشابه ذلك؛ لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله، متلاعبا بأوقاته، عابثا بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان، وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متحالفة، وطرائق متباينة، فضلا عن المقامين، فضلا عن المقامات، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين، وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم -عليه السلام-، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؛ قلنا: لا كيف.


(١) هو برهان الدين، إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي، الشافعي، المفسر، المحدث، المؤرخ، صنف تصانيف كثيرة منها: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، توفي سنة خمس وثمانين وثمانمائة للهجرة. انظر: شذرات الذهب ج ٧/ ص ٣٣٩، ٣٤٠، ومعجم المؤلفين ج ١/ ص ٤٩.
(٢) البدر الطالع ج ١/ ص ٥١.
(٣) فتح القدير ج ١/ ص ٣٧٨. انظر هذا الاستنباط برقم: ٤٢. وهذه المناسبة مما لم يذكره البقاعي.

<<  <   >  >>