للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فأما اتخاذ النصارى عيسى -عليه السلام- ربا إنما معناه اتخاذهم له ربا معبودا، وليس في عطف {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} على {وَرُهْبَانَهُمْ} ما يقتضي أنه في طاعته كما هي طاعة الرهبان؛ لأن طاعته -عليه السلام- حق، ولا يقول إلا الحق. ويدل على هذا المعنى تقديم {مِنْ دُونِ اللَّهِ} على {وَالْمَسِيحَ}.

قال محمد أبو زهرة: وقدم قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} على {وَالْمَسِيحَ} للإشارة إلى أنهم اتخذوه بمرتبة من الربوبية التي نحلوها له غير ما اتخذوه من أربابهم، فما نحلوه له من ربوبية كان عبادة له.

إلى أن قال: ولو أخرت كلمة {أَرْبَابًا} عن {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} لكان المعنى أن الربوبية التي اتخذوها واحدة، مع أن ربوبيتهم للمسيح عبادة، وربوبية الأحبار أخذ للتعاليم (١).

وممن قال بهذا الاستنباط: أبو السعود-كما تقدم-، والآلوسي، والقنوجي. (٢).

ويدل على هذا الاستنباط أن الله تعالى أخر هذا الاتخاذ مع أنه أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم؛ فدل على اختصاصه بالنصارى.

قال الآلوسي: (وتخصيص الإتخاذ به -عليه السلام- يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزير، وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له كذلك أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم؛ لأنه مختص بالنصارى) (٣).

٩١ - الزجر عن التقليد (٤).

قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)} التوبة: ٣١.

قال الشوكاني -رحمه الله-: (وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله، ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه، وأنبياؤه هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا، وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء) (٥).


(١) انظر: زهرة التفاسير ص ٣٢٨٣، ٣٢٨٤.
(٢) انظر: إرشاد العقل السليم ج ٤/ ص ٦٠، وروح المعاني ج ١٠/ ص ٨٤، وفتح البيان ج ٥/ ص ٢٨٦.
(٣) روح المعاني ج ١٠/ ص ٨٤.
(٤) وهو استنباط أصولي.
(٥) فتح القدير ج ٢/ ص ٣٥٣، ٣٥٤. وتمام كلامه: (فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاده، فعلتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة، تنادى بأبلغ نداء، وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموهما آذانا صما، وقلوبا غلفا، وأفهاما مريضة، وعقولا مهيضة، وأذهانا كليلة، وخواطر عليلة وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت … غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم، وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتكم وقدوتهم وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
دعوا كل قول عند قول محمد … فما آمن في دينه كمخاطر)

<<  <   >  >>