للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[زهده]

كان منجمعا عن بني الدنيا، لم يقف بباب أمير، ولا قاض، ولا صحب أحدا من أهل الدنيا، ولا خضع لمطلب من مطالبها، بل كان مشتغلا في جميع أوقاته بالعلم درسا، وتدريسا، وإفتاء، وتصنيفا، عائشا في كنف والده (١).

[وفاته]

توفي الشوكاني-رحمه الله تعالى- بصنعاء في جمادى الآخرة سنة ألف ومائتين وخمسين للهجرة (١٢٥٠ هـ) عن سبع وسبعين سنة (٢).

رابعاً: التعريف بتفسير (فتح القدير) للشوكاني.

تفسير الشوكاني (فتح القدير) فريد في بابه، حوى جواهر ابن جرير، وعمق القرطبي، وإيجاز ابن عطية (٣)، وتدقيق ابن كثير، ودرر السيوطي، وألمعية الشوكاني (٤). وهو وحيد من حيث جمعه، وترتيبه، وحسن أدائه، واستيعابه لأنواع علوم القرآن، وجمعه بين الدراية والرواية (٥).

وعنوان هذا الكتاب يشرح الطريقة، فلم يقتصر على التفسير بالمأثور، ولم يجعل همه العقليات بل هو تفسير يجمع بين الرواية التي هي إيراد المأثورات، والدراية التي هي إبداء الرأي بعد الفهم والتأمل في الآية (٦).

وأحسن ما يبين طريقة الشوكاني في تفسيره ما قاله هو عن طريقته فيه في مقدمة تفسيره، حيث قال: وطنت نفسي على سلوك طريقة هي بالقبول عند الفحول حقيقة، وها أنا أوضح لك منارها، وأبين لك إيرادها وإصدارها؛ فأقول: إن غالب المفسرين تفرقوا فريقين، وسلكوا طريقين:

الفريق الأول: اقتصروا في تفاسيرهم على مجرد الرواية، وقنعوا برفع هذه الراية.

والفريق الآخر: جرَّدوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللغة العربية، وما تفيده العلوم الآلية، ولم يرفعوا إلى الرواية رأسا، وإن جاءوا بها لم يصححوا لها أساسا. وكلا الفريقين قد أصاب، وأطال، وأطاب، وإن رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب، وترك منها ما لا يتم بدونه كمال الانتصاب؛ فإن ما كان من التفسير ثابتا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان المصير إليه متعينا، وتقديمه متحتما، غير أن الذي صح عنه من ذلك إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن، ولا يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا الشأن اثنان، وأما ما كان منها ثابتا عن الصحابة -رضي الله عنهم- فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير للمعنى اللغوي بوجه من الوجوه فهو مقدم على غيره، وإن كان من الألفاظ التي لم ينقلها الشرع فهو كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم، فإذا خالف المشهور المستفيض لم تقم الحجة علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب، فبالأولى تفاسير من بعدهم من التابعين، وتابعيهم، وسائر الأئمة. وأيضا كثيرا ما يقتصر الصحابي ومن بعده من السلف على وجه واحد مما يقتضيه النظم القرآني باعتبار المعنى اللغوي، ومعلوم أن ذلك لا يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية، ولا إهمال ما يستفاد من العلوم التي تتبين بها دقائق العربية وأسرارها، كعلم المعاني والبيان، فإن التفسير بذلك هو تفسير باللغة لا تفسير بمحض الرأي المنهي عنه. وأيضا لا يتيسر في كل تركيب من التراكيب القرآنية تفسير ثابت عن السلف، بل قد يخلو عن ذلك كثير من القرآن، ولا اعتبار بما لم يصح كالتفسير المنقول بإسناد ضعيف، ولا بتفسير من ليس بثقة منهم وإن صح إسناده إليه، وبهذا تعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين، وعدم الاقتصار على مسلك أحد الفريقين، وهذا هو المقصد الذي وطنت نفسي عليه، والمسلك الذي عزمت على سلوكه إن شاء الله، مع تعرضه للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما أمكن واتضح لي وجهه، وأخذي من بيان المعنى العربي والإعرابي والبياني بأوفر نصيب، والحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو الصحابة، أو التابعين، أو تابعيهم، أو الأئمة المعتبرين. وقد أذكر ما في إسناده ضعف إما لكون في المقام ما يقويه، أو لموافقته للمعنى العربي، وقد أذكر الحديث معزوا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد؛ لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها، كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير، والقرطبي، وابن كثير، والسيوطي، وغيرهم، ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا ولا يبينونه، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم قد علموا ثبوته، فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد، بل هذا هو الذي يغلب به الظن؛ لأنهم لو كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك كما يقع منهم كثيرا التصريح بالصحة أو الحسن، فمن وجد الأصول التي يروون عنها، ويعزون ما في تفاسيرهم إليها؛ فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء الله. واعلم أن تفسير السيوطي المسمى بالدر المنثور قد اشتمل على غالب ما في تفاسير السلف من التفاسير المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتفاسير الصحابة، ومن بعدهم، وما فاته إلا القليل النادر. وقد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق بالتفسير مع اختصار لما تكرر لفظا واتحد معنى بقولي: ومثله، أو نحوه، وضممت إلى ذلك فوائد لم يشتمل عليها وجدتها في غيره من تفاسير علماء الرواية، أو من الفوائد التي لاحت لي من تصحيح، أو تحسين، أو تضعيف، أو تعقب، أو جمع، أو ترجيح.


(١) انظر: البدر الطالع ج ٢/ ص ٧٧٦.
(٢) انظر: هدية العارفين ج ٣/ ص ٤٠٣، ومعجم المؤلفين ج ٣/ ص ٥٤١، والشوكاني مفسرا ص ٧٢.
(٣) القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الغرناطي، كان فقيها، عالما بالتفسير، والأحكام، والفقه، والنحو، واللغة، والأدب، كانت له يد في النظم، والنثر، له في التفسير: "المحرر الوجيز". توفي سنة إحدى، أو ثنتين، أو ست وأربعين وخمسمائة للهجرة. انظر: طبقات المفسرين للسيوطي ص ٦٠، ٦١، وطبقات المفسرين للداودي ج ١/ ص ٢٦٠، ٢٦١.
(٤) انظر: مقدمة تحقيق فتح القدير لعبد الرحمن عميرة ص ٣٨.
(٥) انظر: الإمام الشوكاني مفسرا ص ١٦٦.
(٦) انظر: مناهج المفسرين لـ. د. منيع محمود ص ٢٧٨.

<<  <   >  >>