للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قال ابن تيمية: فصل الخطاب في الآية أن أولي الضرر نوعان:

نوع لهم عزم تام على الجهاد، و لو تمكنوا لما قعدوا و لا تخلفوا، و إنما أقعدهم العذر، فهم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر" (١).

وكما في حديث أبى موسى -رضي الله عنهم-: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما" (٢). فأثبت له مثل ذلك العمل لأن عزمه تام و إنما منعه العذر.

والنوع الثاني من أولى الضرر: الذين ليس لهم عزم على الخروج، فهؤلاء يفضُل عليهم الخارجون المجاهدون و أولوا الضرر العازمون عزما جازما على الخروج.

و قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين في نفي الاستواء، فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم و غير العازم بقيت الآية على ظاهرها. و لو جعل قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} عاما في أهل الضرر و غيرهم؛ لكان ذلك مناقضا لقوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}؛ فإن قوله لا يستوي القاعدون و المجاهدون إنما فيها نفي الاستواء، فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، و لزم أنه لا يساوي المجاهدين قاعد و لو كان من أولي الضرر، و هذا خلاف مقصود الآية (٣).

إذاً فما استنبطه الشوكاني إنما يصح في المعذور من أهل الجهاد الذي غلبه عذره، وأقعده عنه، ونيته جازمة.

قال ابن القيم: (وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية؛ وهذا لأن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام. كما دل عليه قوله: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه" (٤) (٥).


(١) أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: نزول النبي الحجر،، رقم: ٤١٦١، ج ٤/ ص ١٦١٠. وعند مسلم من حديث -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة فقال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض". أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، رقم: ١٩١١، ج ٣/ ص ١٥١٨.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، رقم: ٢٨٣٤، ج ٣/ ص ١٠٩٢.
(٣) انظر: مجموع الفتاوى ج ١٤/ ص ١٢٣، ١٢٤.
(٤) أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فسماهم المؤمنين، رقم: ٣١، ج ١/ ص ٢٠، وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، رقم: ٢٨٨٨، ج ٤/ ص ٢٢١٣.
(٥) طريق الهجرتين ص ٥٣٢.

<<  <   >  >>