للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ووجه الاستنباط: أن الله تعالى قال عن - ملك بابل (١) - الذي حاج إبراهيم -عليه السلام-: … {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} - يعني: انقطع، وبطلت حجته (٢) ولم يقل: فبهت الذي حاج؛ فدل إيراد الكفر في حيز الصلة، وإظهار ذلك في موضع الإضمار على كون المحاجة كفرا (٣).

وممن قال بهذا الاستنباط: أبو السعود، البروسوي، والآلوسي، والقنوجي، وابن عثيمين، والهرري. (٤).

وفائدة هذا الاستنباط: التنبيه على أن المحاجة بالباطل كفر. ويؤيده قوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: من الآية ٥٦]. فالذين كفروا هم الذين يحاجون بحجج باطلة. فالآية وإن كانت أصلا في جواز المجادلة، والمناظرة (٥)، لكن التنبه لهذا المعنى المستنبط مهم للتفريق بين ما يجوز وما لا يجوز من الجدل.


(١) هو النُمْرُود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. والأول قول مجاهد وغيره. انظر: جامع البيان ج ٤/ ص ٥٦٨ - ٥٧٠، و تفسير القرآن العظيم ج ٢/ ص ٢٥٤. وفي نمرود وجهان: بالمهملة، كما في تاريخ الأمم والملوك ج ١/ ص ١٧٢، والبداية والنهاية ج ١/ ص ٣٤٢. وبالمعجمة كما في لسان العرب ج ٣/ ص ٥١٦.
(٢) انظر تفسيرها في جامع البيان ج ٤/ ص ٥٧٠، والمحرر الوجيز ص ٢٣٤.
(٣) انظر: إرشاد العقل السليم ج ١/ ص ٢٥٢، وروح المعاني ج ٣/ ص ١٩، وتفسير سورة البقرة لابن عثيمين ج ٣/ ص ٢٨٥.
(٤) انظر: إرشاد العقل السليم ج ١/ ص ٢٥٢، وروح البيان ج ١/ ص ٤١٦، وروح المعاني ج ٣/ ص ١٩، وفتح البيان ج ٢/ ص ١٠٣، وتفسير سورة البقرة لابن عثيمين ج ٣/ ص ٢٨٥، وحدائق الروح والريحان ج ٤/ ص ٣٨.
(٥) قال القرطبي: (وتدل على إثبات المناظرة، والمجادلة، وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١)} [البقرة: من الآية ١١١]، {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: من الآية ٦٨] أي: من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم -عليه السلام- قومه، ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة الأنبياء وغيرها، وقال في قصة -عليه السلام-: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: من الآية ٣٢] الآيات إلى قوله: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)} [هود: من الآية ٣٥] وكذلك مجادلة موسى -عليه السلام- مع فرعون إلى غير ذلك من الآي، فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل، وجادل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة على ما يأتي بيانه في آل عمران، وتحاج آدم -عليه السلام- وموسى -عليه السلام- فغلبه آدم -عليه السلام- بالحجة، وتجادل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم السقيفة، وتدافعوا، وتقرروا، وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر -رضي الله عنه- في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: من الآية ٦٦] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر). الجامع لأحكام القرآن ج ٣/ ص ٢٧٣.
وقال ابن عاشور: والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل. انظر: التحرير والتنوير ج ٢/ ص ٥٠٧.

<<  <   >  >>