للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والحق بلا شك ما قاله الشوكاني، ومن قال بقوله.

قال ابن تيمية: وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وفي الصحيح عن النبي: أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم (١). وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع، فقال: يا بنى يكذبون، هذا يتكلم على لسانه.

وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل، فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام … وليس في الأدلة الشرعية ما ينفى ذلك (٢).

ويتنبه إلى أن للصرع نوعان. قال ابن القيم: الصرع صرعان:

صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية

وصرع من الأخلاط الرديئة.

والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج. وأما جهلة الأطباء وسقطتهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطيبة ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به.

إلى أن قال: وبالجملة: فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا (٣).

ويتنبه إلى أن قول الشوكاني: (وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع) لا يلزم منه القول بأنه ينكر نوع الصرع الذي يكون من الطبائع؛ لأن قوله هذا إنما جاء في معرض الرد على المنكرين النافين بالجملة كون الصرع من جهة الجن، فاقتضى المقام إثبات ما أنكروه، ولا يلزم من ذلك نفيه للنوع الثاني من الصرع، والله أعلم.


(١) تقدم تخريجه قريبا.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى ج ٢٤/ ص ٢٧٦، ٢٧٧.
(٣) انظر: زاد المعاد ج ٤/ ص ٦٦ ومابعدها.

<<  <   >  >>