للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقد ذكر الشوكاني هذا المعنى أيضا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)} [الأعراف: من الآية ٤٣] (١) مستدلا عليه بآيات من كتاب الله، وبحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رادا على من أنكر هذا المعنى، فقال: ({وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)} أي: وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقيل لهم: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} أي: ورثتم منازلها بعملكم. قال في الكشاف بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة (٢) انتهى. أقول يا مسكين هذا قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: "سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"، والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلا، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة، وفى التنزيل: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء: من الآية ٧٠] (٣)، وفيه: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: من الآية ١٧٥] (٤) (٥). فسمى الله دخولهم الجنة فضلا منه ورحمة.


(١) وتمامها: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ … تَعْمَلُونَ (٤٣)}
(٢) انظر قول الزمخشري في الكشاف ج ٢/ ص ١٠١. وقد تعقبه ابن المنير بقوله: (يعني بالمبطلة قوما سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، ولكن بفضل الله وبرحمته، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة"، فقالوا: صدق رسول الله، وهؤلاء هم أهل السنة. قيل لهم: فما معنى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ … تَعْمَلُونَ (٧٢)} [الزخرف: ٧٢]؟، قالوا: اللّه تفضل بأن جعل الجنة جزاء العمل، فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب للعباد وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، جمعا بين الدليلين على وجه يطابق دليل العقل، الدال على أن اللّه تعالى يستحيل أن يجب عليه شيء، فانظر أيها المنصف، هل تجد في هذا الكلام من الباطل ما يوجب أن يلقب أصحابه بالمبطلة؟ وحاكم نفسك إليها، ثم إذا وضح لك أنهم برآء في هذا البر، فاعرضه على قوم زعموا أنهم يستحقون على اللّه تعالى حقا بأعمالهم التي لا ينتفع بوجودها، ولا يتضرر بتركها- تعالى وتقدس عن ذلك- ويطلقون القول بلسان الجرأة أن الجنة ونعيمها أقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى لا تفضل له عليهم فيه، بل هو بمثابة دين تقاضاه بعض الناس من مديانه، وانظر أي الفريقين المذكورين أحق بلقب المبطلة، والسلام). الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال ج ٢/ ص ١٠١.
(٣) وقبلها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)}.
(٤) وتمامها: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)}
(٥) فتح القدير ج ٢/ ص ٢٠٦.

<<  <   >  >>