للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ووجه الاستنباط من جهتين:

الأولى: أن الله تعالى فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف، ومفهوم المخالفة يقتضي أن ما زاد عن الواحدة فليس لها النصف؛ فدل ذلك على أن فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وليس بعده إلا الثلثان.

الثانية: أن الله تعالى جعل الثلثين للأختين في قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا … اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا … إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: من الآية ١٧٦] وصلة البنتين بأبيهما أقوى من صلة الأختين بأخيهما، فدل بمفهوم الموافقة الأولي، أو القياس على أن للبنتين الثلثين.

وممن قال بهذا الاستنباط: القصاب، والجصاص، والقنوجي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (١).

ورأى ابن عباس -رضي الله عنهم- أن للبنتين النصف، وكأنه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محملا في الآية، ولو أريد ذلك لما قال: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (٢).

وما ذهب إليه الشوكاني هو رأي الجمهور. قال الشنقيطي: ({فَإِنْ كُنَّ … نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان، وقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك، وصرح بأن الواحدة لها النصف، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضا، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال. وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف-يعني: فوق- لا مفهوم مخالفة له، وأن للبنتين الثلثين أيضا: الأول: قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة، وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلا، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان؛ فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر … ومما يزيده إيضاحا أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله: {فَإِنْ كُنَّ} إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر. الموضع الثاني: هو قوله تعالى في الأختين: {فَإِنْ كَانَتَا … اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: من الآية ١٧٦]؛ لأن البنت أمس رحما، وأقوى سببا في الميراث من الأخت بلا نزاع، فإذا صرح تعالى بأن للأختين الثلثين علم أن البنتين كذلك من باب أولى … فالله تبارك وتعالى لما بين أن للأختين الثلثين أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى. وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط -ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات- أفهم أيضا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين؛ لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به. ويزيد ما ذكرنا إيضاحا حديث جابر -رضي الله عنهم- قال جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما يوم أحد، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: يقضي الله تعالى في ذلك؛ فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك" (٣).


(١) انظر: نكت القرآن ج ١/ ص ٢٤٥، ٢٤٦، وأحكام القرآن ج ٣/ ص ٩، وفتح البيان ج ٣/ ص ٣٧، وتيسير الكريم الرحمن ص ١٦٦، وأضواء البيان ج ١/ ص ١٩١، وتفسير سورة النساء لابن عثيمين ج ١/ ص ٦٥، ٦٦.
(٢) انظر: التحرير والتنوير ج ٤/ ص ٤٦.
(٣) أخرجه أحمد في مسنده برقم: ١٤٨٤٠، ج ٣/ ص ٣٥٢، وابن ماجه في كتاب: الفرائض، باب: فرائض الصلب، رقم: ٢٧٢٠، ج ٢/ ص ٩٠٨، والترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث البنات، رقم: ٢٠٩٢، ج ٤/ ص ٤١٤. وأبو داود في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الصلب، رقم: ٢٨٩١، ج ٣/ ص ١٢٠.

<<  <   >  >>