للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قال القرطبي: ({دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: دعوه وحده، وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا؛ لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب) (١).

وممن قال بهذا الاستنباط: القرطبي-كما تقدم-، والقنوجي. (٢).

ويدل على المعنى المستنبط عموم قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)} [النمل: ٦٢]. فهو يشمل المضطر المسلم والكافر.

ويدل عليه كذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لمعاذ -رضي الله عنه- لما بعثه إلى كفار اليمن: "واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (٣)، فأخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن دعوة المظلوم من هؤلاء الكفّار لا يحجبها شيء عن الله تعالى.

قال القرطبي- عند تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)} -: ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وُجِدَ من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)} وقوله: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه، وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: "واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب" (٤).


(١) الجامع لأحكام القرآن ج ٨/ ص ٢٩٣، ٢٩٤.
(٢) انظر: الجامع لأحكام القرآن ج ٨/ ص ٢٩٣، ٢٩٤، وفتح البيان ج ٦/ ص ٣٩.
(٣) وتمامه: عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أن معاذا قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهم- إلى اليمن قبل حجة الوداع، رقم: ٤٠٩٠، ج ٤/ ص ١٥٨٠. وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، رقم: ١٩، ج ١/ ص ٥٠. واللفظ له.
(٤) انظر: الجامع لأحكام القرآن ج ١٣/ ص ٢٠٠.

<<  <   >  >>