للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أو أن وجه الاستنباط: أن الله لم يعاقبهم على شكواهم؛ فيدل ذلك على جواز الشكوى عند الضرورة.

قال ابن الفرس: (يتخرج منه شكوى المسبغة والحاجة لمن يرجى أن يكون سببا في كشفها، لأن الله تعالى لم يعاقبهم على شكواهم تلك) (١).

وممن قال بهذا الاستنباط: الجصاص، وابن الفرس-كما تقدم-، والقرطبي، والقنوجي، والقاسمي، والسعدي-كما تقدم-، والهرري (٢).

وحقيقة الصبر ألا يعترض على المقدور، فأما إظهار البلاء لا على وجه الشكوى فلا ينافي

الصبر، ويؤيد هذا المعنى أن الله قال في أيوب -عليه السلام-: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)} (٣) [ص: من الآية ٤٤] مع أنه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (٤) [الأنبياء: من الآية ٨٣]. (٥).

قال ابن القيم: (لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط، والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها، كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة، فمنه الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه، ولا تضاده الشكوى إلى الله كما تقدم في شكاية يعقوب إلى الله مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (٦) [يوسف: من الآية ٨٣]. وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته، والتوصل إلى زوال ضرورة لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض للطبيب بشكايته، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله، وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه. وقد كان النبي إذا دخل على المريض يسأله عن حاله ويقول: كيف نجدك؟ وهذا استخبار منه واستعلام بحاله) (٧).


(١) أحكام القرآن ج ٣/ ص ٢٢٩.
(٢) انظر: أحكام القرآن ج ٤/ ص ٣٩٣، وأحكام القرآن ج ٣/ ص ٢٢٩، والجامع لأحكام القرآن ج ٩/ ص ٢١٤، ٢١٥، وفتح البيان ج ٦/ ص ٣٩١، ومحاسن التأويل ج ٦/ ص ٢١٢، وتيسير الكريم الرحمن ص ٤١١، وحدائق الروح والريحان ج ١٤/ ص ٩٣.
(٣) وتمامها: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)}.
(٤) وتمامها: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)}.
(٥) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم ج ٣/ ص ١٠٢، والجامع لأحكام القرآن ج ٢/ ص ١٧٠.
(٦) وتمامها: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)}.
(٧) عدة الصابرين ص ٢٣٢.

<<  <   >  >>