للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وممن قال بهذا الاستنباط: الزمخشري، وأبو السعود. (١). وأشار إليه القنوجي (٢).

وهذا الاستنباط على أن المراد بالزينة غير مواضعها. (٣). أما على القول بأن المراد بالزينة في الآية مواقعها، وأنها من باب إطلاق اسم الحال على المحل؛ فإن حرمة النظر إلى المواقع تكون


(١) انظر: الكشاف ج ٣/ ص ٢٣٥، وإرشاد العقل السليم ج ٦/ ص ١٧٠.
(٢) ولم يصرح بعبارة الشوكاني: (وفي النهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى)، بل قال: (وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك، وهكذا إذا كان النهى عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجميع). انظر: فتح البيان ج ٩/ ص ٢٠٥.
(٣) ذكر الشنقيطي الأقوال في المراد بالزينة، فقال: وقد رأيت في النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها، كقول ابن مسعود -رضي الله عنه-، من وافقه إنها ظاهر الثياب، لأن الثياب زينة لها، خارجة عن أصل خلقتها، وهي ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا، وأحوطها، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة ما تتزين به وليس من أصل خلقتها أيضا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك؛ لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها، كقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان. وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب يدل على أنه هو المراد في محل النزاع؛ لدلالة غلبة إرادته في القرءان بذلك اللفظ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها.
أما الأول منهما فبيانه أن قول من قال في معنى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المراد بالزينة الوجه والكفان مثلا توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها، كالحلي، والحلل، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال الزينة الظاهرة الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها، كقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ … لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)} الأعراف: ٣١، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)} الأعراف: ٣٢، … فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وهو المعروف في كلام العرب كقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى … وإذا عطلن فهن خير عواطل.
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة، وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين: فقال بعضهم هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب. وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخطاب ونحو ذلك.
قال مقيده ــ عفا الله عنه وغفر له ــ أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود -رضي الله عنه- أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم، والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي. أضواء البيان ج ٤/ ص ١٠١، ١٠٢.

<<  <   >  >>