للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخمر ورضيعه (١)، ونائبه وحليفه، وخَدينُه وصديقه، عَقَدَ الشيطانُ بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفْسَخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تُنسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسُوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطّلع على سرائر الأفئدة، ويَدِبُّ إلى محل التخييل، فيُثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرّقاعة والرعونة والحماقة.

فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبَهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقلُه، وقَلّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بَهاؤه، وتخلّى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانُه، وثَقُل عليه قرآنه، وقال: يا رب! لا تجمع بيني وبين قرآن عدوِّك في صدرٍ واحدٍ. فاستحسنَ ما كان قبل السَّماع يستقبحه، وأبدى من سِرِّه ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهزُّ منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدقّ على أُمِّ رأسه بيديه، ويَثِبُ وثباتِ الدِّبابِ، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفِّق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوَجْد كخُوار الثيران، وتارةً يتأوّه تأوّه الحزين، وتارةً يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبيرُ به من أهله حيث يقول:

أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا ... عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ (٢)

وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَاني ... فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ

فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى ... سُرُورًا وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِي


(١) ح: «وصيفه».
(٢) الأبيات بلا نسبة في «نهاية الأرب» (٤/ ١٣٦).