ومنذ أن تسنم بيت الرشيد عرش هذه الإمارة لم يستطع غيره أن يتربع فيه لا سيما أن عشيرة هذا البيت قديمة الوجود في ذلك الجبل ولم يقع طارئ تاريخي يبعدها عنه وإن اتفق أن خضعت هذه القبيلة لغير أهل هذا البيت فأن خضوعها لها كان بالاسم لا بالموقع.
٩ - إمارات العرب وإمارة الرشيد
تختلف الإمارات العربية في هيئتها وحياتها بعض الاختلاف فمنها ما لا مطمح لها إلى الغزو والفتوحات وتكتفي بالمحافظة على حالتها. وهذا ما تراه في إمارات العراق غالباً، ولعل سببه أنها في مقام ضيق لا محل لها لتوسيعه. أو أنها محاطة بقبائل أو عمائر كبيرة لا يمكنها أن تتغلب عليهم لتمد أجنحة سطوتها عليها وعلى ما وراءها أو لتطلب لنفسها الإمارة الكبرى عليها. أو هنالك مراقبة البعض للبعض تحول دون تحقيق أمنيتها لتتسع وتكبر. هذا فضلاً عن أن في تلك الديار سبباً آخر وهو أن الإمارة لا تمتد إن لم تكن ذات عشيرة كبيرة تسخر غيرها لنفسها بالقوة أو بالدعوة الدينية أو بالمال الذي هو الواسطة العظيمة للترغيب والترهيب. على أن لإمارات العراق أسباباً أخرى تحول دون التوسع والتبسط وهي مراقبة من هي أعلى منها تدأب في أن تجزئ قواها لتبددها وتكون هي المالكة الكبرى وصاحبة السيطرة العظمى. وقد تحمي الدولة القبيلة الضعيفة فتقويها على مناوئتها فتبطش بها اشد البطش فتنهك قواها وتعركها عرك الأديم حتى أنها تشارف التلف والاضمحلال.
ومن الإمارات ما تجعل همها الفلاحة والزارعة ورعاية المواشي فتقصر عنايتها على هذه
الأمور فلا يطمح بصرها إلى غيرها فلا يشرئب عنقها إلى السطوة الخيالية ولهذا تبقى ساكنة وإذا أجبرت على الحرب دخلت حومتها مضطرة إليها.
ومنها ما جاورت المياه والأنهر وابتنت بعض القصور وأخلدت إلى الراحة وأسباب الترف والنعيم فيصعب عليها بعد ذلك النهوض إلى ما فيه شظف العيش وسفك الدماء فتقنع بما رزقت ولا تنظر إلى ما في أيدي الغير.
فينتج من هذا كله أن الإمارة البدوية التي تطمح إلى مد جناح سطوتها أو توسيع ملكها تحتاج إلى أن تتجرد من جميع ما أشرنا إليه من الموانع وتجد في أن تكسب حياتها بأفعالها. ولهذا يكون أول أمرها شن الغارات ثم الغزوات ثم تعبئة الجند (أي التجهيزات)