للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

٣ - وكيف أفاد الاخطل شعره؟ وهنا أيضاً سنعود إلى العهد الجاهلي فنرى مسألة أخرى عربية: نرى أن مدرسة مضرية - أستاذها أوس بن حجر، ومن تلاميذه زهير والنابغة ثم كعب بن زهير والحطيئة - تعتمد في فنها الشعري على أمور ظهرت واضحة في آثار تلاميذها حتى لتشعر انهم صورة واحدة يأخذ بعضهم من بعض. من هذه الأمور التأني في عمل الشعر وتهذيبه قبل إذاعته ليكون محكم النسج، قوي الأسر، لا اضطراب فيه. وأنت تعرف حوليات زهير وقصائد النابغة والحطيئة، وتشعر بما فيها من استواء وأحكام. وكذلك كان الاخطل يهذب شعره فامتاز بجزالته، وقوة استوائه، وأسره، وكان يبقي من القصيدة وينفي سائره. ويمكنك أن تقرأ قصيدة:

خف القطين منك أو بكروا ... وأدركتهم نوى في صرفها غير

التي يمدح بها عبد الملك بن مروان لتعرف أثر التهذيب وإبداع الصنعة الفنية، ومن تلك الأمور العناية بأنواع التشبيه والمجاز والكناية. ويعتبر عهد هذه المدرسة أقدم العصور الصحيحة لهذه الفنون البيانية التي ظهرت آثارها بعد في شعراء العصر العباسي بعد ما نقلها إليهم الاخطل، والحطيئة، ومروان بن أبي حفصة وغيرهم. ولا يزال رجال البلاغة إلى اليوم يستشهدون ببيت زهير:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطلة ... وعرى أفراس الصبا ورواحله

ولا تكاد تخلو قصيدة الاخطل من هذه الأنواع البيانية.

ومنها الاعتماد على المحسنات فيما يذهبون إليه من تشبيه ومجاز. فكأنهم يريدون نقل الطبيعة إلى أساليب القول كما ينقلها الراسم في لوحته. كذلك يتبعون الأمور الواقعة والحوادث فيصورونها كما هي مرتبة حقة لا مبالغة فيها ولا زيادة. ويمكنك أن توازن بين زهير والاخطل في صدر المعلقة، وفي قصيدة الاخطل التي سبق مطلعها.

وهذه الميزات تلفتنا إلى أمرين هامين: أحدهما - أنها تمثل الشعر العربي في أول أطوار نضجه حيث يعتمد على الطبيعة والحس دون الخيال البعيد الذي لا يظهر إلا في الأطوار الأخيرة بعد النضج العلمي والفكري بانتشار العلوم

<<  <  ج: ص:  >  >>