وكل إذا عزف عليها أنطقها نطقا كأن إنسانا يتكلم بلسانه الفصيح فكان يثير في صدور السامعين مرة الحزن وأخرى الفرح وتارة البكاء وطورا الضحك والأنس. وقد جالس مجلس رجل كبار كانوا يطربون بسماع ضربه على الآلة حتى أنهم ما كانوا يودون سماع آلات غيره والطاعنون في السن يتذكرون ما كان يهيج في صدورهم حينما كان يضرب على الكمانة في الكنائس الشرقية وكل يرافقه فيها أحد الضاربين على الأرغن والسنطور أو القانون فقال أحد السامعين كنت أود أن أصم أذني حتى يبقى ما سمعته بهما ولا يخرج منهما إلى أبد الدهر، وكثيرا ما كان السامعون يظهرون إعجابهم بما كانوا يسمعون له بإمارات ظاهرة حسية حتى أنهم كانوا ينسون أنفسهم وأنهم في الكنيسة حيث يجب أن يراعوا المقام وقياسته ومع ذلك كانت تغلبهم العاطفة وتأخذهم نشوة الطرب وكل يصدر منهم كل تلك الإشارات والإمارات الدالة على الإعجاب بما كانوا يسمعون.
وكل من عادة القسس في العهد التركي أن يجولوا في الطرق محافظة على الأمن العام فكانوا إذ جاءوا إلى شباك دار يوسف قرعوا له بعصاهم فيفتح لهم النافذة ويسمعهم لحنين أو ثلاثة ثم يشكرونه ويقولون له: أحسنت وبارك الله فيك ونم بسلام آمنا فأننا نحافظ على بيتك كل المحافظة لما زينك لله به من موهبة لإطراب هذا فضلا عن حسن صوته فأنه كان رجيما كما كان صوت والده.
ومن الآلات الموسيقية التي كل يتقن النقر عليها السنطور العراقي والقانون والجنبر (وهو نوع من الطنبور) وأصول الإيقاع على الدق والدنبك (والدربكة) والطبل. وكان يجيد
أصول المقامات العراقية المعروفة بالقراءة وجالس كثيرا كبار القراء (المغنين) كشنتاغ وأبو أحمد وإسرائيل وأحمد زيدان وغيرهم وكان يتأسف على أن القراءة العراقية (الغناء العراقي) ماتت بموت أحمد زيدان وغيرهم إذ لم يبق لها ذلك الرونق البديع، وكل يحسن بعض المقامات التي ربما لا يتقيا اليوم المغنون من جملتها الحسيني الذي كان يأخذ بمجامع القلوب إذا ما قرعه على مكاننه وكل يسميها (ابنته) لحبه لها. ولم يكن يطرب للألحان السورية والمصرية بل أعظم طربه للألحان العراقية القديمة الحقيقية
والحق يقال إن أغلب المقامات العراقية إن لم نقل كلها - إذا ما أحسن