للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدواوين والمجالس البغدادية.

دعم هذه الحياة المدرسية، بحياة أخرى تخللت الدرس، وخلفته هي (المجالس الأدبية) التي لا تقف عند علوم الجادة. فأدباء ذلك الزمن وفضلاؤه كانوا ينتابون مجلس والده، فهذا يورد المختار من المنظوم والمنثور، وذاك ينشد شيئاً من نظمه، وغيرهما يقص الأخبار، وهكذا تمضي المجالس بين وقائع، ونوادر، وغرائب، فهي (ديوان الأدب الحي) على حد ما كان يجري في قديم الزمن. فتلك المجالس هي المهذب الحقيقي، والمدرب الصحيح، بحيث لا

ترى المجلس يخلو من صاحب نزعة، أو ذي بضاعة يحاول بها إظهار مزية، أو صناعة أدبية بديعة، أو مضحكة، أو رواية، وهكذا إلى ما سواها.

رأينا بقايا هذه المجالس بعيني رأسنا. فكان يؤمها الناس من كل صوب ويطرق فيها كل موضوع، ويبحث فيها عن شؤون جمة، من قضايا علمية، ووقائع تاريخية، ومقطوعات شعرية، ومختارات أدبية، ونكات هزلية، وتدقيقات بيتية، فتنشر وتذيع.

والحاصل أن تلك المجالس كانت موطن اقتباس التجارب، ولا تعوض عنها مدرسة. أو تفوقها مؤسسة علمية ولا أدبية في ذلك الحين. إذ كل امرئ كان يقدم فيها بضاعة، أو يبدي مكنون سره أو حزبه، أو نتائج تتبعه، وسائر أغراضه الاجتماعية والأدبية. وهناك هناك كانت المباراة. ومن ثم لا يقبل غير المفيد، ولا يختار إلا الأصلح. وحينئذ تنتشر (المجاميع) وهي المختار مما يجري في المجلس، المجالس محك الرجال. وموطن اختبار مواهبهم وهي ميدان الامتحان وسوق البضاعة ومسرح السياسة.

فهذه المجالس هي التي قوت الروح الأدبية في المترجم، ومكنت مادته العلمية، ولذا تراها ظاهرة في مؤلفاته مثل شرحه للامية العرب، ونظم القطر، لأنها ترى اظهر في شرحه للامية العرب ومختاراته فيها. وكذا شعره.

وهذه (المجالس) أيضاً كانت البذور النافعة لغرس الأدب الناضج ولتدقيق النظر في المناحي العلمية في مختلف المواضيع: فراجت سوق الأدب، وتزاحم الناس فيها. فظهرت بشائره في أواخر القرن القاني عشر، وأوائل القرن الثالث عشر.

<<  <  ج: ص:  >  >>