وقد خبر هذا الوزير الحالتين: نفوذ المماليك الأول، وضعفهم الأخير. وشاهد بعينه مقدرة عبد الله بك الشاوي. ولعله هو الذي أسر الوزير عمر باشا بقتله فقتله. ولذا قرب الوزير سليمان باشا صاحب خاتمه (مهرداره) أحمد آغا الخربنده ولم يثق بغيره لمكاشفة سره، والاطلاع على طويته في هذا الامر، وذلك لأنه رباه من صغره، وعرف إخلاصه له،
واستقتاله في خدمته، فأعطاه من النفوذ والسلطة ما حسده عليهما أهل حاشيته، فمكنه لهذه الغاية ولم يخش منه قوة قبيلة أو نفوذاً يصح أن يستعمله عليه، بعد هذه المنحة من حول وطول.
أما سليمان بك، فإنه قام بخدمات جليلة لهذا الوزير، وأنقذه من ورطات عظيمة في جميع ما وقع من الأسفار والحروب. فأعماله نحو الوزير مبرورة خالصة وظاهرة للعيان، فنال وجاهة عند الوزير ولم يساو به أحداً في الظاهر؛ وان كان الوزير حسب خطته يضمر له نيات، على حد ما قيل (لا يجتمع سيفان في غمد، ولا فحلان في شول) خصوصاً أنه حصل على حب الآهلين ومدحه الشعراء، زد على ذلك أن في أصله نجابة وكرامة تدعوان إلى تساميه وفخاره على غيره.
وما قيل: إن الوزير كان قد ربى أبن الخربنده، وهو أحمد آغا المهردار من صغره، ورعاه رعاية كبيرة لما فيه من اعتدال قوام، وجمال خلق، وأدب جم، وموسيقى جذابة، وحسن تدبير، ومهارة في القيام بالأمور المودعة إليه، قول صدق قوى نفوذه لديه بحيث صار يد الوزير وسمعه وبصره، ومن هنا تولدت النفرة بينه وبين سليمان بك ووقعت المزاحمة، ولما كان الوزير يحب الاثنين أراد أن يوفق بينهما، فلم يتمكن مع عزة المهردار عند الوزير واستحقاقه التصدير لنباهته. كل هذا لم يكن السبب الحقيقي، وسليمان فائق بك المؤرخ الشهير لم يشأ أن يبدي السبب الحقيقي؛ لأنه من المماليك ويحب أن يستر نياتهم. وان كان أشار إلى تألم الوزير لمقتل ابن الخربنده وبيانه فان ذلك هدم لمشروعه وتشويش لما قرره، وكذا يقال عن صاحب المطالع فإنه أبدى أن حساده توصلوا إلى الوزير، وغرضهم أبعاده فأبلغوا عنه ما أرادوا إذ لو لم يبعدوه لما