والشهادات والقرائن، فيصطرع القانون المكتوب في الطروس، والقانون المكتوب في النفوس، ويتضاءل الأول أمام جانيهم حتى ليكاد يعتذر إليه، فتصبح جنايته بالتأويل ليست جناية فلا جزاء عليها، وتمسي جنايتنا بالتهويل جنايتين ونصفًا، فالجزاء عليها ضعفًا وضعفًا.
وانحدر إلى الإجراءات البوليسية البسيطة فما فوقها تجدها كأنها تنفيذ لشريعة اسمها شريعة الاحتقار والبغض، أول موادّها لا رحمة بضعيف، ولا عذر لعائل، ولا شفقة على بائس، ولا احترام لذي مقام ديني؛ بل كل المسلمين سواسية أمام قانون الاحتقار.
إن الاحتقار هو الأساس الذي بنى عليه الاستعمار تربيته وتعليمه وحكمه، وقد أصبح خلقًا ذاتيًّا في أبنائه وأنصاره وحكّامه، لا يستطيعون الانفكاك عنه لأنه جزء من وجودهم، ومادة لحياتهم، ثم غمره البغض فأصبحا عنصرين مكوّنين لشيء موجود هو هذا الظلم. وإن الاحتقار والبغض هما اللذان رفعا الحصانة عن ديننا، وأموالنا، وأعراضنا، وأبداننا.
...
سلوا عقلاء الأرض الذين لم يصابوا في عقولهم بمرض الاستعمار، وسلوا علماءها الذين لم يفسد علمهم الاستعمار، سلوهم جميعًا أو أشتاتًا: هل يلتقي الاستعمار والعدل في طريق؟ وهل يتحقق العدل مع الاحتقار والبغض بين حاكم ومحكوم؟
سلوا أرسخ الأمم عرقًا في الحرية، وأكثرها تمتّعًا بها، عن الأسباب التي تمكّن للعدل في الأرض، وتحقّقه بين الناس، وتثبّت أصوله بينهم، يجيبوا بلسان واحد: إن العدل لا تثبت أركانه لزعازع الاستبداد، ولا يقوى بنيانه على طغيان المستبدين، إلا إذا كان بين الحاكم والمحكوم علاقة من محبة، وجامع من مصلحة، ورابطة من روح، وشركة في شعور: شعور من الحاكم بأن المحكوم شريكه ومعينه، وشعور من المحكوم بأن الحاكم زميله وقرينه، وأنهما- لذلك كله- متعاونان على إقامة العدل، فإذا وُجد أصل هذا الشعور في الجانبين ازداد تمكّنًا كلّما آتى العدلُ ثمراته، حتى ينتهي في نفس الحاكم إلى اعتراف بأن المحكوم هو الذي رفعه إلى تلك المنزلة، وفي نفس المحكوم إلى اعتقاد بأنه مساوٍ للحاكم في استحقاق تلك المرتبة.
وأخرى ... تُثبت العدل وتحميه، وهي إحساس الحاكم برقابة متيقّظة ممن تحته، وبمحاسبة دقيقة ممن فوقه، فإذا زايله وازع الضمير، ووازع القانون، ردّه وازع المراقبة والمحاسبة إلى سواء السبيل، وأين في الحكّام- اليوم- من يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس؟