للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قبل زيارتي للاهور، ولكن الرسالة لم تصله في حينها لأن الحكومة تعطل رسائله للمراقبة، لما بينها وبينه من الانحراف الذي سنتعرّض له، ولما بلغته الرسالة أسف وأرسل من ورائي رسولًا إلى راولبيندي التي هي منتهى رحلتي بالقطار وبينها وبين لاهور مئات الأميال فأدركني الرسول بها وبلّغني سلامه واسفه وانتظاره.

فلما رجعت من كشمير وبشاور لم أشأ أن أزعجه فلم أخبره إلا بعد نزولي بالفندق في لاهور، فزارني. وتعارفت الأجساد بعد تعارف الأرواح فإذا هو رجل رَبعة، مهيب الطلعة، ممتلى صحة وحيوية، يغلب السوادُ البياض على لحيته الكثة المهيبة، ثم استدعاني إلى داره، وهي مركز الجماعة، فاجتمعنا على الشاي في ثُلّة من أعضاء الجماعة، وطلبوا مني كلمة ونحن على موائد الشاي، فخطبت وأفضت في المواضيع الإسلامية الشاغلة للأفكار، وكان- خفّف الله محنته- يستوقفني كلّما علت لغتي وتخللتها الإشارات والكنايات، ليترجم له أحد تلامذته البارعين في العربية ما غمض عليه، تقصيًا منه للمعاني وحرصًا على أن لا يفوته منها شيء.

...

أما ما بينه وبين حكومة باكستان، فأكبر أسبابه وأظهرها أن مبدأ الجماعة الإسلامية هو إقامة حكومة إسلامية في باكستان بالمعنى الصحيح الكامل الذي لا هوادة فيه ولا تساهل، يتضمن دستورها الحكم بما أنزل الله في المعاملات والحدود والقصاص، وللأستاذ المودودي في ذلك آراء بعيدة المدى ومناهج وتخطيطات مدروسة لا تقبل الجدل، بل له دستور كامل مهيّأ وقد نقلت منه مجلة "المسلمون" الغرّاء التي تصدر بمصر قطعًا دلّت على ما ذكرناه وعلى انفساح ذرع العلّامة المودودي في فهم النظام الإسلامي، وحجة الجماعة في ذلك أن المسلمين ما رضُوا بالانفصال عن الهند وما هانت عليهم التضحيات الجسيمة التي لم تضحّ بها أمةٌ في الدماء والأموال إلا في سبيل إقامة دينهم على حقيقته، أما إبقاء ما كان على ما كان فهو لا يساوي تلك التضحيات ولا جزءًا منها.

وحكومة باكستان- وإن كانت إسلامية المظهر- مدنيةُ المخبر، لم تزل تسير على النُظم التي وضعها الإنكليز للهند، وهي تريد أن يكون دستورها إسلاميًّا لأن الشعب يريد ذلك، أو لأن معظم الشعب يريد ذلك، ولكنها تريده تدريجيًّا ومع التسامح والتسهّل، ومراعاة مقتضيات الأحوال؛ وهناك طائفة من المستغربين لا تريد الدستور الإسلامي، ولكنها تعمل في الخفاء غالبًا لقلّتها بالنسبة إلى الشعب، ويعتقد المتبصّرون أن هذه الطائفة تلقى تأييدًا أجنبيًّا قويًّا، ولا تتّسع هذه الكلمة لترجيح إحدى الفكرتين، وإن كان لنا في ذلك رأيٌ صارحنا به بعض المسؤولين في ذلك الحين.

<<  <  ج: ص:  >  >>