للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سيرة أخيه بابا عروج الصالحة زرعت لهما المحبة في قلوب الناس، فهيّأت له أسباب الاطمئنان، وأما اضطلاعه بالحرب فإن الولاية لم تلهه عن مواصلة الحرب مع الإسبان وغيرهم هجومًا ودفاعًا، وتوالت انتصاراته عليهم في البرّ والبحر، ومن وقائعه المشهورة فيهم، الوقعة التي انتصر فيها على الجيش الذي قاده شارلكان بنفسه، فكسره خير الدين شرّ كسرة.

ولما اشتهر اسمه، وعلا نجمه، واتسقت انتصاراته البحرية في البحر الأبيض، والبرية في سواحله الافريقية التي احتلّها اللاتينيون، وقع ذلك كله موقع الرضى والاغتباط في نفس الخليفة العثماني ورجال حكومته، لأنهم يعدون القائدين الأخوين من رجال دولتهم، ويعدون مفاخرهما الحربية جزءًا من مفاخرهم، وللدولة العثمانية من البحر الأبيض جزء عظيم وهو حوضه الشرقي: سواحل البلقان والأناضول وسوريا ومصر وليبيا، فإذا أضاف هذان القائدان إلى هذا الجزء العظيم سواحل افريقيا الشمالية إلى نهايتها في مضيق طارق، فقد حقّقا لها أغلى ما كانت تطمح إليه الدول العظيمة من آمال في بسط سلطانها على هذا البحر العجيب الذي يقول فيه شوقي:

أَيُّ المَمَالِكِ أَيُّهَا ... فِي الدَّهْرِ مَا رَفَعَتْ شِرَاعَكَ

وما زال هذا البحر مجال غلاب بين الدول الناشئة على ضفتيه، وما زالت الحرب سجالًا بين ضفته الافريقية وبين ضفته الأوربية، ولم تجتمع الضفتان في يد واحدة كاملة لدولة واحدة بل لم تجتمع إحداهما إلا قليلًا، تهيّأ ذلك في بعض أجزائهما للفينيقيين ولليونان وفي معظمها للرومان، ولم تبسط ظلها على معظم سواحله إلا الدولة العربية والدول الإسلامية التي تفرّعت عنها، حتى سمّاه بعض المؤرخين (البحر العربي).

ووقائع خير الدين هي التي أيأست الإسبان من بلوغ أملهم في شمال افريقيا وهو أمل طويل عريض يفوق آمالهم في أمريكا الجنوبية، لقرب افريقيا منهم واتصالها بهم، وهي التي أخّرت الاستعمار الأوروبي لافريقيا قرونًا وهذا الشمال هو مفتاح افريقيا كلها ومن ملك المفتاح سهل عليه دخول الدار.

وافتقرت الدولة العثمانية إلى كفاءة خير الدين الحربية والبحرية، التي قامت الشواهد عليها من وقائعه وانتصاراته، فاستدعته إلى دار الخلافة وأسندت إليه قيادة أسطول الدولة، ليدع عنها العوادي التي بدأت تعدو عليها في هذا البحر. فاعجبوا لثلاثة أشياء تجتمع في ذلك الوقت، واذكروا ماذا يكون من آثار اجتماعها: أسطول دولة كامل، بقيادة خير الدين في البحر الأبيض، ونسبة البحر الأبيض من خير الدين نسبة عرين الأسد من الأسد، والأسطول أنيابه وأظفاره.

وتولّى ولاية الجزائر في غيبة خير الدين حسن آغا، من سنة ١٥٣٣ ميلادية إلى سنة ١٥٤٤. وفي أيام ولايته استولى خير الدين على تونس وألحقها بممالك الدولة العثمانية،

<<  <  ج: ص:  >  >>