للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أجل ذلك كانت وفادتي إلى هذا الشرق بقسميه العربي والإسلامي، فما هو موضوع هذه الوفادة؟ وماذا كانت نتائجها؟

يحسن، قبل شرح موضوع الوفادة ونتائجها، أن نعرفكم بهذه الجمعية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) تعريفًا موجزًا، وأن نبين لكم بعض أعمالها ومقاصدها، فلعل في الاخوان الحاضرين من يعرفها معرفة مجملة أو لا يعرف عنها شيئًا:

اسم الجمعية يفصح عن حقيقتها، فهي جمعية علماء، يخدمون الإسلام بتبيين حقائقه ونشر علومه بالجزائر، ومن كان له إلمام بحالة الجزائر، وما صنعه الاستعمار الفرنسي بها، يستشعر عند سماع اسمها كل ما رآه أو سمعه من آثار الاستعمار، ويستشعر مع ذلك أن طريق هذه الجمعية شاق، وأن أعمالها صعبة، وأن تبعاتها ثقيلة، والأمر في حقيقته كذلك.

تكونت هذه الجمعية سنة ١٩٣١ ميلادية، أي في السنة الأولى من القرن الثاني لوجود فرنسا في الجزائر، هذا القرن الذي كانت تعتقد فرنسا أنه قرن الاطمئنان والراحة والنعيم والاستغلال الهنيء لخيرات الجزائر، بما مهد له القرن الأول من أكنافها بالحديد والنار. فأراد الله لها غير ذلك، وطاش فألها، فلم تسترح يومًا واحدًا من بدء هذا القرن الجديد.

كان الداعي إلى تأسيسها عوامل الهية، هي سننه في التطورات البشرية، وفي مجيء نصره للصادقين حين يستيئسون منه، وفي إملائه للظالمين حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ولكن الظاهر من أمرها، الذي يكتب وتناله القوانين هو أنها جمعية إصلاح ديني تحارب ضلالات العقائد، وبدع العبادات، ومفسدات الأخلاق، وترجع بالمسلمين إلى ينبوع الدين، ومطلع هدايته من الكتاب والسنة.

إن هذه الكلمات لأثقل شيء على سمع فرنسا ورجالها الاستعماريين في ذلك الحين وهي كلمات، فكيف بها إذا صارت أعمالًا ودعوة إلى الحق! إن الاستعمار في الجزائر كان ينفر ويُنَفِّرُ من كلمات إصلاح، وفضيلة وهداية، وكتاب، وسنة، وتاريخ سلف، ويتخيل من كل واحدة منها: عمر وعليًّا، خالدًا وعقبة وطارقًا وصلاح الدين إلى جمال الدين ومحمد عبده، لا سيما وهو يعلم أن هذه الفئة التي جهرت بهذه الكلمات ليست من طراز العلماء الذين راضهم على الخنوع له والرضى بوظائفه والجري في عنانه. إنها فئة تجمع مع قوّة العلم قوّة الإيمان، ومع قوّة الحجة قوة البيان، ومع صلابة الإرادة صلابة العزيمة، ومع علمه بهذا كله فقد تظاهر بإرخاء العنان لها، وأعدّ لها من المكائد السرية ما لا يعلمه إلّا الشيطان.

والاستعمار يرى في مبدإ جمعية العلماء- الذي أعلنته في جمل قليلة متواضعة هينة لينة- خطرًا كل الخطر على سلطانه، لأنه ما ثبت أقدامه في الجزائر إلّا بتخدير العقول بواسطة

<<  <  ج: ص:  >  >>