للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبتدعين والدجالين والمتجرين باسم الدين، وقد كان لهم سلطان على النفوس فإذا زال سلطانهم زال سلطانه.

بدأت جمعية العلماء أعمالها بالاتصال بالأمة عن طريق الدروس الدينية، والمحاضرات الاجتماعية والتاريخية، مبينة لها حقائقه وما جاء به من العزة والكرامة والشرف والمجد والسيادة، وكانت الحملة شديدة، وكان التأثير بليغًا، وكان التأثر عظيمًا، فكان فزع الاستعمار- تبعًا لذلك- شديدًا، ودام هذا الدور سبع سنوات تقريبًا توثق فيها الاتصال بين الجمعية والأمة، وتغلغل الإصلاح الديني في جميع الطبقات، وتفتح الشعور إلى ما وراء الإصلاح الدينى من إصلاح دنيوي، وانتقلت أحاديث الناس في ذلك من السرار إلى العلان، ومن الخبر إلى المطالبة، ومن ثم عمت المطالبة بالحقوق السياسية، ورأت فرنسا ورجالها بعينها ما كانت تحذر، فماذا صنعت؟ إنها صنعت كل شيء، ولم تصنع شيئًا، كادت ومكرت وسلطت جيوشًا من أئمة الابتداع والمرتزقة باسم الدين على الجمعية يحاربونها ويصدون الناس عنها، فلم يجدوا لكلامهم مساغًا، بل قابلوهم بالمقت والغضب، وخسروا المقام الذي كان لهم في الأمة وخسر الاستعمار عونهم وتأييدهم لأن الأمة انفضت من حولهم، وما انتهى الدور الأول بانتهاء سبع السنوات، حتى انهدم ركن من الأركان التي كان يعتمد عليها الاستعمار، وهو هذه الطائفة التي شهد عليها التاريخ بأنها "مطايا الاستعمار".

جاء الدور الثاني لجمعية العلماء، وهو دور التربية الإسلامية والتعليم العربي الابتدائي الحر، المشتمل على مبادئ العربية وآدابها ومبادئ التاريخ الإسلامي، والتربية الإسلامية الصالحة، وجاء معه الصراع العنيف مع السلطة الاستعمارية وقوانينها الجائرة، استعدت الجمعية بالإيمان والعزيمة وتجاهل القوانين الاستعمارية، وتوطين النفوس على المكروه الذي يصيبها في سبيل تعليم الدين والعربية، وآزرتها الأمة في ذلك، لأنها أدركت بواسطة تلك الدروس والمحاضرات ما يبيته الاستعمار لدينها ولغتها، وما كان يغالطها به أولئك الدجّالون المتجرون بالدين.

صممت الجمعية على تشييد مدارس فخمة بمال الأمة، لتحيي سنة البذل في سبيل العلم، وهي منقبة في المسلم نسيها بفعل التخدير الاستعماري فأحيتها جمعية العلماء في نفوس الجزائريين، فتباروا في البذل وتنافسوا في بناء المدارس، وقابلت الجمعية هذا الاتجاه بما يكمله من برامج وكتب ومدرسين، وارتاع الاستعمار لهذه النهضة التعليمية الخطيرة، وتربص بها اشتعال الحرب الأخيرة وقضى على معظمها- بالتعطيل والاستيلاء على كثير من المدارس لاستعمالها في المصالح الحربية- واعتقل كثيرًا من العلماء ورجال التعليم، ونفى قادتهم إلى الصحراء، منهم كاتب هذه السطور، فقد قضى ثلاثة السنوات الأولى للحرب منفيًا في صحراء وهران.

<<  <  ج: ص:  >  >>