للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فحمل إلينا الأدب صورة المجتمع الجاهلي وضراوته، وصورة العهد الإسلامي وانتفاضته والدولة الأموية وقوميتها، والدولة العباسية ومدنيتها، وهكذا نجد الأدب في كل العصور والدول مشرقية ومغربية ... نجده أداة بنائية، ووسيلة حيوية ضرورية في كيان المجتمعات ...

ولقد أدرك هذه الحقيقة السابقون من قومنا فحاطوا الأدب والأديب بالحماية والرعاية ومهّدوا للأديب أن يخلص لفنه ويخلص فنه له ... عرفنا ذلك في أيام دمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة الرشيد والمأمون، والقاهرة عاصمة المعز وصلاح الدين، وفي المغرب على عهد حكوماته العربية الخالصة ... ورثنا نحن كل هذه المآثر التي شهد لها العالمون، ودان لعظمتها الأوائل والأواخر ...

وأول ما يجب أن نحمي منه الأديب والأدب هو تلك العواصف التي تطفئ جذوته وتمسخ نوره ورونقه، وتمسّه بالعوز والكدية والصعلكة، فلا بدّ أن نبذل للأديب من رحابة الحياة وشر العيش ما يجعله معتدل الحس رضيّ النفس، صادق التعبير، غير ضجر بضيقه وعسره ...

إلى متى تظل تلك الأسطورة المشهورة ملصقة بالأديب والأدباء ... أعني الأسطورة التي تحكي أن الفقر أول سمات الأديب؟ ... إلى متى نظل نؤمن بالفقر الملهم والجوع العبقري، والبؤس الموحي ... إلى آخر ما هناك من رواسم يردّدونها بلا معنى أو ثمرة؟ ...

إلى متى يظل الأدباء منكورين في حياتهم، فإذا ماتوا عدنا نذرف عليهم الدموع، وننشر فوقهم العطر السجين والنور المخنوق، ونتذكر- بعد الموت فقط- أن لهم أفضالًا وأمجادًا، وأن علينا حيالهم واجبات ثقالًا؟

ولئن كان في عصرنا أدباء عرف المجد الاجتماعي سبيله إليهم، ونزل الرخاء ببابهم، فعاشوا في مهاد رافه، ونعيم باذخ، إن هؤلاء لا يجاوزون في الشرق العربي أن يكونوا آحادًا لا يشكلون بمكانتهم ولا بعددهم وضعًا عامًّا.

ولست أريد بذلك أن نقطع للأدباء الإقطاعيات، أو نقيم لهم التكايا، فقد درست تلك الأساليب وبارت، وإنما يدور حديثي حول تقدير الأثر الأدبي في حياته وتقييم الأدب تقييمًا عمليًّا لا نظريًّا، ولا عاطفيًّا فقط، فلن يقتات الأديب عاطفة مهما سمت ولا مدحًا مهما اتسع.

وإذا كنا نريد للأديب الرخاء ورحابة العيش، حتى يفرغ لفنه، فإن الحرية الفكرية للأديب هي مداد قلمه الذي بدونه لا ينتج ولا يثمر ... لا بدّ من حماية الأديب من كل ما يزيّف فنه، ويدفعه إلى التخفي وراء الرمز والغموض ...

<<  <  ج: ص:  >  >>