للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبل العمل، وتوسع لها في مجال الحرية لبثّ دعايتها التبشيرية إلى أقصى حد، ومن ثم فهي تؤسس مراكز التبشير، وتعمرها بالدعاة والأطباء والمعلمين، وتجهزها بكل وسائل الإغراء والإغواء، وتغتنم المجاعات والأوبئة فرصًا لاصطياد الجُوّع واليتامى والمرضى لتفتنهم عن دينهم بلقمة أو ثوب أو جرعة دواء، وما مهد لها تلك الأسباب إلا الاستعمار، فهو الذي أجاع وأعرى، وهو الذي أفقر وأمرض، وهو الذي مكن للجهل والجمود؛ كل ذلك عن عمد وقصد، وكل ذلك ليذل، ويقل، ويهيئ للمبشرين وسائل التنصير، وقد بلغ من تأييد الحكومة الجزائرية للتبشير أنها أوكلت للمبشرين في الكثير من مراكزهم توزيع المؤن المخصصة على المسلمين لتحببهم إلى الناس ولتيسر لهم سبل الاختلاط، حتى يجر حديث حديثًا، وتتسرب الدعاية التبشيرية بينهما، وإن توزيع التموين في زمننا هذا لسلطة تعلو على جميع السلط، وجاذب من أعظم الجواذب.

وأما اليهودية فهي تناصر الاستعمار على الإسلام بوسائل أخرى منها "التفقير"، وتظاهر المسيحية على الإسلام في نواح أخرى غير التبشير، لأن من تقاليد اليهودية أنها لا تمتهن بالعرض، ولا تكاثر بالأتباع، لأنها دين طائفة مخصوصة، ولأنها جنسية ودين معًا، فمن صونها أن لا يزاحم بها في أسواق التبشير، كما أن من تقاليد اليهودية أيضًا أنها لا تضيع أية فرصة للمقايضة بالمصالح الجنسية، والمنافع القومية المادية، لا تراعي في ذلك قديمًا مأثورًا، ولا تاريخًا محفوظًا، وإنما تقدر المصلحة بالحاضر وإن كان زائفًا أو مدخولًا، وقد جاءت قضية فلسطين فرصة ملائمة لسلسلة من هذه المقايضات مع أمم وحكومات، تنوسيت فيها الأحقاد الموروثة، وأهدرت الحقوق القائمة، وأنكرت الآداب والمجاملات المرعية، وما حمل النائب اليهودي "مايير" في مجلس النواب الفرنسي حملته المشهورة على المسلمين الجزائريين، وكان فيها فرنسويًا أكثر من الفرنساويين، بل مسيحيًّا أكبر من المسيحيين، إلّا مقايضة شهد الناس آثارها في تسهيل الحكومة الفرنساوية سبيل الهجرة والتهريب إلى فلسطين، وشهدنا نحن هنا سوابقها ولواحقها من كل ما يبذله يهود الجزائر في سبيل فلسطين، من أموال طائلة، وتجهيزات سخية، وتسهيلات ميسرة للمهاجرين إلى فلسطين.

...

ما الذي ألب على الإسلام هذه القوات المتظاهرة؟ وما الذي جمع على حربه تلك القلوب المتنافرة؟ إنه- بلا شك- الخشية من قوته الروحية الرهيبة أن تنبعث كرة أخرى فتصنع الأعاجيب، وتغير وجه الدنيا كما غيرته قبل ثلاثة عشر قرنًا، وإن الدين الذي يطوي المناهل بلا سائق ولا حاد، ويقتحم المجاهل بلا دليل ولا هاد، وينتشر بين أقوام عاكفين على أصنامهم، أو مغرورين بأوهامهم، لا يمده ركاز، ولا يسنده عكاز- لحقيق أن يخشى

<<  <  ج: ص:  >  >>