وكلا القولين صحيح باعتبار.
فالأول: باعتبار أن العبادة خضوع وتذلل في اللغة، والاستعانة بالله حاجة للعبد، فتقديم الخضوع على طلب الحاجة هو كالوسيلة لوصول العبد لحاجته.
والثاني: باعتبار معنى العبادة شرعا، وأنها غاية العباد الّتي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ومن ثمّ يكون تقديم العبادة على الاستعانة من قبيل تقديم الغايات على الوسائل.
لكن الثاني مقدم لأن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية.
وذكر ابن القيم مناسبات أخرى للتقديم، قال: (وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها.
ولأنّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ متعلّق بألوهيّته، واسمه الله، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ متعلّق بربوبيّته، واسمه الرب؛ فقدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كما قدم اسم «اللّه» على الرّبّ» في أوّل السّورة.
ولأن إِيَّاكَ نَعْبُدُ قسم الرّبّ، فكان من الشّطر الأوّل، الّذي هو ثناء على اللّه تعالى، لكونه أولى به، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قسم العبد، فكان من الشّطر الّذي له، وهو اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السّورة.
ولأنّ العبادة المطلقة تتضمّن الاستعانة من غير عكس، فكلّ عابد للّه عبوديّة تامّة، مستعين،
ينعكس. لأنّ صاحب الأغراض والشّهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتمّ، ولهذا كانت قسم الرب.
ولأنّ الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس.
ولأنّ الاستعانة طلب منه سبحانه، والعبادة طلب له.
ولأنّ العبادة لا تكون إلّا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص.
ولأنّ العبادة حقّ اللّه الّذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة، وهو بيان صدقته الّتي تصدّق بها عليك، وأداء حقّه أهمّ من التّعرّض لصدقته.
ولأنّ العبادة شكر نعمته عليك، واللّه يحبّ أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديّته، ودخلت تحت رقّها؛ أعانك عليها. فكان التزامها والدّخول تحت رقّها؛ سببا لنيل الإعانة، وكلّما كان العبد أتمّ عبوديّة كانت الإعانة له من اللّه أعظم. والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى. وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحبه.
ولأنّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ له، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ به، وماله مقدّم على ما به، لأنّ ما له متعلّق بمحبّته ورضاه وما به متعلّق بمشيئته، وما تعلّق بمحبّته، أكمل ممّا تعلّق بمجرّد مشيئته، فإن الكون كلّه متعلّق بمشيئته، والملائكة والشّياطين والمؤمنون والكفّار، والطّاعات والمعاصي. والمتعلّق بمحبّته طاعاتهم وإيمانهم. فالكفّار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبّته، ولهذا لا يستقرّ في النّار شيء للّه أبدا، وكلّ ما فيها فإنّه به تعالى وبمشيئته) (١).
(١) مدارج السالكين ج ١/ ص ٩٧، ٩٨.