للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سدا للذريعة ودفعا للوسيلة وقطعا لمادة المفسدة والتطرق إليه.

ووجه الاستنباط: أن الله نهى المؤمنين عن مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولهم: راعنا مع أن معناه في لغة العرب صحيح جائز (١)، وقد لا يكون للمتكلم به إلا القصد الحسن. لكن لما كان هذا اللفظ -أو لفظ قريب منه (٢) - في لغة اليهود سباً؛ نهاهم عن موافقتهم في القول؛ منعا للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} فأبقى المعنى وصرف اللفظ (٣)، فدل ذلك بدلالة النص-مفهوم الموافقة- على وجوب استعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن، وترك الألفاظ التي فيها احتمال لأمر غير لائق (٤)، وإن كان استعمالها في لغة العرب جائزا، وقصد المتكلم بها خيرا.

وهذا الاستنباط كما أنه يصح على أن وجه أن النهي عن لفظ راعنا لئلا يتوهم أنه سب (٥) كما ذكر الشوكاني؛ فإنه يصح أيضا على الأوجه الأخرى التي لأجلها كان النهي، ولا مدخل لليهود فيها. وهي:


(١) قال الطبري: … ولكنه جائز أن يكون كما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه؛ لتفهم عني. انظر: جامع البيان ج ٢، ص ٣٨١.
وقال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزء والسخرية. انظر: التفسير الكبير ج ٣/ ص ٢٠٣، والبحر المحيط ج ١/ ص ٤٨٩.
(٢) قيل: لليهود كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي راعينا، ومعناها اسمع لا سمعت.
وقيل: لفظ قريب منه هو "راعينا" أي أنت راعي غنمنا. …
أو أنهم قصدوا بالراعن اسم فاعل من الرعونة، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم: عياذا بك أي: أعوذ عياذا بك، فقولهم: راعنا أي: فعلت رعونة. ويحتمل أنهم أرادوا به صرت راعنا أي: صرت ذا رعونة. انظر: معالم التنزيل ج ١/ ص ١٠٢، والتفسير الكبير ج ٣/ ص ٢٠٣، وأنوار التنزيل ج ١/ ص ٣٧٥، وإرشاد العقل السليم ج ١/ ص ١٤١.
(٣) انظر محاسن التأويل ج ١/ ص ٣٦٩.
(٤) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص ٦١.
(٥) ذكر المفسرون في كتبهم للنهي أوجها لا تخرج -فيما يظهر لي والله أعلم- عن الأوجه التي ذكرها الرازي. انظر: التفسير الكبير ج ٣/ ص ٢٠٣.
وتلك الأوجه: ثلاثة منها لليهود فيها مدخل، وهي سب بلا شك. ووجهان فيهما سب، وليس لليهود فيهما مدخل، هما:
١) راعنا وإن كانت صحيحة المعنى، إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزء والسخرية أو عند المفر.
٢) لا تقولوا قولا راعناً، أي: قولا منسوبا إلى الرعونة بمعنى راعن.
انظر: التفسير الكبير ج ٣/ ص ٢٠٣ والبحر المحيط ج ١/ ص ٤٨٩.
فلفظ (راعنا) على هذه الأوجه الخمسة سب، سواء أكان لليهود فيها مدخل أو لم يكن؛ لذا كان النهي عنه لفظ (راعنا) مع صحته لئلا يتوهم أنه سب.

<<  <   >  >>