للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ … السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)} [البقرة: ٢٢] إعلاماً بأنه لا شريك له في العبادة كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق، ثم أتبعه بما يليق لذلك المقام مما تقدم التنبيه عليه، ثم رجع إليه قائلاً ثانياً:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: من ٢٨] إلى آخرها، فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات، إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرين، وذكر ما أعد لكل من الجزاء؛ فأتبع ذلك هذه الآية عاطفاً لها على ما ذكرته على وجه أصرح مما تقدم في إثبات التوحيد؛ بياناً لما هو الحق، وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا الذين قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين وعقوبة بعض العاصين بعض أتباعهم، فإنه واحد لا كفؤ له بل ولا مداني فلا مانع لنفوذ أمره. ولا يستنكر تجويز هذا العطف؛ لأنه جرت عادة البلغاء أن أحدهم إذا أراد إقامة الحج على شيء لأمر يرتبه عليه أن يبدأ بدليل كاف، ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه، ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر؛ لتأنس به النفوس، وتسرّ به القلوب، وربما كان الدليل طويل الذيول كثير الشعب، فيشرح كل ما يحتاج إليه من ذيوله وما يستتبعه من شعبه، فإذا استوفى ذلك، ورأى أن الخصم لم يصل غلى غاية الإذعان؛ أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفاً له على الوجوه الأول تذكيراً بما ليس بمستنكر ذلك في مجاري عاداتهم ومباني خطاباتهم؛ ومن تأمل مناظرات الباقلاني وأضرابه من أولي الحفظ الواسع والتبحر في العلم علم ذلك) (١).

واستحسن ابن بدران قول البقاعي بقوله: (وهو تدقيق بديع، واستنباط حسن).

ثم نبه إلى إشارة ألطف ذكرها الحرالي -الذي أفاد منه البقاعي-، فقال- ابن بدران-: وهنا إشارة ألطف أبداها صاحب كتاب الباب المقفل، حاصلها: أنه لما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق، والتعريف بحق الحق على الخلق، وإظهار مزايا من اصطفاه الله تعالى ممن شملهم أصل الإيمان من ملائكته وأنبيائه ورسله ومن يلحق بهم من أهل ولايتهم، وإظهار شواهد ذلك منهم، و إقامة الحجة بذلك على من دونهم في إلزامهم أتباعهم، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات؛ كان النافع لهم إنما هو الوحدة، فلما أظهر لهم تعالى مرجعهم إلى وحدة أبوة آدم عليه الصلاة والسلام في جمع الذرية، ووحدة أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جمع الإسلام، ووحدة أحمدية محمد -صلى الله عليه وسلم- في جمع الدين؛ فاتضح لهم عيب الشتات والتفرق وتحقق لهم شاهد النفع في الجمع إلى وحدات؛ كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر الحق، وفي إفهام ذلك وحدات ما يظن في ظاهر الوحدات الظاهرة من وحدة الروح، ووحدة النفس والعقل؛ فقال تعالى: - عطفاً على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة وما أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة- {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإذا قبح الشتات مع وحدة الأب الوالد، فكيف به مع وحدة أب الدّين، فكيف به مع وحدة النبي المكمل، فكيف به مع وحدة الإله الذي هو الرحمن الرحيم (٢).


(١) نظم الدرر ج ١/ ص ٢٩١، ٢٩٢.
(٢) نقله عنه البقاعي في نظم الدرر ج ١/ ص ٢٩٢، ٢٩٣. وانظر: تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي ص ٢٩٤ - ٢٩٨. وكلامه في هذا طويل، حيث ربط الآية بمواضع كثيرة في سورة البقرة. ولعل هذا النوع من الكلام في المناسبات هو الذي يرده الشوكاني، ويراه متكلفا.

<<  <   >  >>