للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والذي يظهر -والله أعلم- أن المخالفين لم يمنعوا صحة المعنى، لكنهم رأوا أن الآية لا تدل عليه صراحة، قال ابن جزي: (ويعلمكم الله إخبار على وجه الامتنان. وقيل: معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه، وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يعطيه؛ لأنه لو كان كذلك؛ لجزم يعلمكم في جواب اتقوا) (١).

فقول المخالفين يصح إذا قلنا إن الآية لا تدل صراحة على هذا المعنى، لكن هذا لا يمنع أن تكون دلالة الآية عليه خفية؛ فيصح عندها هذا المعنى استنباطا.

وكأن هذا المعنى المستنبط دلت عليه الآيات بدلالات متفاوتة في الظهور والخفاء. قال السعدي: (واُستدل بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أن تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل) (٢).

ومما ينبغي التنبه إليه أن التقوى لا تفيد المعرفة بذاتها، إنما تعين على حصول العلم النافع.

قال ابن تيمية: نعم لسنا ننكر أن إماتة الشهوات قد تكون شرطا في صحة النظر مثلما تكون الصحة شرطا في صحة النظر، لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها وإن كانت شرطا فيها، كما أن الصحة شرط في العلم، وإن كانت ليست مفيدة له. ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة -أي النظر والاعتبار- وحث عليها في جملة ما حث، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم … العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به؛ لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على حصول العلم النافع، كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح، كما أن الشرع أمر بالعلم بالله تعالى؛ لأنه مقصود في نفسه وهو معين على العمل الصالح، وعلى علم آخر نافع (٣).

فالقول إذاً بصحة هذا الاستنباط لا يجيز قول الصوفية بأن التقوى سبب للعلم، إذ لابد للعلم من التعلم وبذل الجهد في البحث والحفظ، وهذا هو الأصل، أما التقوى فهي سبب من أسباب تحصيل العلم.

قال الشيخ الدوسري: (واعلم أنه لا يلتفت إلى قول الصوفية وأشياعهم-رحمهم الله- من أن التقوى تكون سببا للعلم، بل إن التقوى جالبة للعمل، وحسن المراقبة لله، والاستجابة لنداءاته في القرآن. أما العلم فلا يحصل إلا بالتعلم، وبذل الجهد في الحفظ والبحث، ولكن مع حسن النية يسهل الله طريقه ويبارك في معلومات صاحبه، أما زعم الصوفية الحصول على العلم الإلهي بترويض النفس على العبادة السنية والمبتدعة، وقراءة الأوراد والأحزاب؛ فهذا فيه فتح باب للدجل والشعوذة، والقول على الله بغير علم، وهو أشرك من الشرك) (٤).


(١) التسهيل لعلوم التنزيل ج ١/ ص ٩٧.
(٢) تيسير الكريم الرحمن ص ١١٩.
(٣) انظر: درء التعارض ج ٩/ ص ١٣٠، ١٣١.
(٤) صفوة الآثار والمفاهيم ج ٣/ ص ٥٦٣.

<<  <   >  >>