للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كما أن الامتناع من الطيبات التي أحلها الله لا فضيلة فيه (١). قال الشوكاني: (فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة؛ فقد ظن خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته) (٢).

والإسلام دين الوسطية والاعتدال، ولذا فإن المعتدل المقتصد يثاب على اعتداله مالا يثاب عليه المتنطع المتشدد ولا يشفع له أن كان مقصده التقرب إلى الله؛ لأنه خالف الطريق التي شرعها الله. قال ابن تيمية: فالمسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله و رسوله، فلا يحرم الحلال و لا يسرف في تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، و يقتصد في ذلك، و يقتصد في العبادة فلا يحمل نفسه مالا تطيق. فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس، و قهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة التي غالب من سلكها ارتد على حافره، و نقض عهده، و لم يرعها حق رعايتها، و هذا يثاب على ذلك مالا يثاب على سلوك تلك الطريق، و تزكو به نفسه، و تسير به إلى ربه، و يجد بذلك من المزيد في إيمانه مالا يجده أصحاب تلك الطريق، فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة فإنه ما من بني آدم إلا من أخطأ، أو هم بخطيئة، و قد قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)} [النساء: من الآية ٢٨] (٣).

إلا أنه يجوز للمرء ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام، بل لقصد التربية للنفس على التصبر على الحرمان عند عدم الوجدان. قال ابن عاشور: (والنهي إنما هو عن تحريم ذلك على النفس. أما ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبر على الحرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس. وكذلك الإعراض عن كثير من الطيبات للتطلع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيبات دون تشوف ولا تطلع. وفي تناولها شكر لله تعالى) (٤) واستعانة بها على طاعة الله (٥).


(١) انظر: أحكام القرآن للجصاص ج ٤/ ص ١١٠.
(٢) فتح القدير ج ٢/ ص ٦٩.
(٣) انظر: مجموع الفتاوى ج ١٤/ ص ٤٦٠، ٤٦١.
(٤) التحرير والتنوير ج ٥، ص ١٩٠.
(٥) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص ٢٤٢.

<<  <   >  >>