للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلنا: إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقا؛ لأنه قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)} والحكم الممدود إلى غاية بكلمة (حتى) يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية، فهذا يدل على صحة قولنا.

فإن قالوا: فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي؟

قلنا: ما ذكرتموه محتمل، إلا أن على التقدير الذي ذكرتم يصير تكليفه أن لا يحكم البتة، وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص، فلما ترك ذلك كان ذلك كبيرة.

وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأً واقعا في الاجتهاد، فكان حمل الكلام عليه أولى (١).

ثم إن القول بجواز اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- هو رأي الجمهور. قال النووي -عند شرح حديث: "لولا أن أشق على المؤمنين -أو على أمتي- لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (٢) -: (فيه دليل على جواز الاجتهاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المختار) (٣).

واجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إما أن يكون فيما يتعلق بمصالح الدنيا، وتدبير الحروب، أو أن يكون في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية.

فأما الأول فمجمع على جوازه (٤)، وأما اجتهاده في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية، فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب (٥):

الأول: المنع؛ لقدرته على النص بنزول الوحي، وقد قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)} [النجم: ٤] والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)} [النجم: ٣] (٦).

واحتجوا أيضا بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سئل ينتظر الوحي، ويقول: ما أنزل علي في هذا شيء.


(١) انظر: التفسير الكبير ج ١٦/ ص ٦٠.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: السواك، رقم: ٢٥٢، ج ١/ ص ٢٢٠. وأخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: السواك، رقم: ٨٤٧، ج ١/ ص ٣٠٣.
(٣) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم ج ٣/ ص ١٤٤.
(٤) حكى هذا الإجماع سليم الرازي، وابن حزم. انظر: البحر المحيط ج ٦/ ص ٢١٤، وإرشاد الفحول ص ٥٧٧.
(٥) انظر هذه المذاهب وأدلتها في: البحر المحيط ج ٦/ ص ٢١٤ - ٢١٦، وإرشاد الفحول ص ٥٧٧ - ٥٧٩، والوجيز في أصول الفقه الإسلامي ص ٣٤٦ - ٣٤٨.
(٦) قال الزركشي: حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي، وهو ظاهر اختيار ابن حزم. انظر: البحر المحيط ج ٦/ ص ٢١٤.

<<  <   >  >>