[الأدلة على أن الأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان]
ودلت الآيات والأخبار كلها عن أن الإيمان اسم مدح يستحق صاحبه المدح على أفعاله، والفسق اسم ذم يستحق صاحبه الذم على أفعاله، ودليل هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} [الأنفال:٢] يعني: خشعت قلوبهم وذلت وانقادت وخضعت لله عز وجل، فالإيمان يزيد بسماعهم لتلاوة آيات الذكر الحكيم، كلما سمعوا آية ازدادوا إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، فكل الذي سبق عمل قلبي.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:٣]، الصلاة عمل الجوارح، وعمل القلب كله داخل في الإيمان.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:٣]، والنفقة تكون بالجوارح.
إذاً: عمل الجوارح وعمل القلب داخل في حقيقة الإيمان.
وقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:٤]، بين الله عز وجل أن من جمع بين عمل القلب الإيماني وعمل الجوارح هو المؤمن حقاً، وهذا يدل على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، كل على حسبه، {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٤].
قال: [وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:٧٢]]، والوعد والجزاء للمؤمنين الذين أتوا من الأعمال القلبية وأعمال الجوارح ما يحقق لهم الإيمان الكامل أو الإيمان التام.
ٌقال: [وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:٦٥]، وقال تعالى في صفة المنافقين: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:٦٨]]، فهؤلاء استحقوا هذه الدركة من النار بسبب ما قد أتوا من أفعال استوجبت لهم هذه الدركة، وسماهم الله تعالى منافقين وهو اسم ذم.
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)]، فلا يمكن أن يستوي الذي يسب الناس ويشتمهم ويلعنهم ويؤذيهم مع الذي لا يسبهم ولا يشتمهم ولا يلعنهم ولا يؤذيهم؛ لأن الذي يسب ويشتم ويلعن ويفسق ويبدع بغير حق يستحق الذم لما قد بدر من لسانه من السب والشتم واللعن، والضرب باليد والقدم، كل هذه من أعمال الجوارح، فإنها تخرج صاحبها من اسم المدح وهو الإيمان وتدخله في اسم الذم وهو الفسوق، فالذي يسب ويشتم ويلعن وغير ذلك بغير حق فإنما هو فاسق.
وإذا كان لفظ القتال، يعني: إراقة الدماء، فقتل المؤمن بغير حق لا شك أنه معصية كبيرة، ونحن نعلم أن صاحب المعصية لا يكفر مهما كانت كبيرة إلا إذا استحلها، مع قيام الحجة عليه، كل أنواع الكبائر لا يكفر صاحبها إلا إذا استحلها، حاشا الشرك، فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وإذا أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإذا مات مصراً على الذنب غير مستحل له فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
هذا تأصيل علمي لمرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة، بخلاف المرجئة فإنهم يقولون: لو ارتكب امرؤ كل الكبائر عدا الشرك بالله فإنه مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ولا حرج عليه.
لا شك أن هذه دعوة إلى الفجور والمعاصي، إذا علم المرء من نفسه أن إيمانه لا يتزعزع ولا ينقص، وأنه داخل الجنة لا محالة مهما ارتكب من كبائر وسيئات، فلا يردعه عن الكبائر شيء؛ لأنه وجبريل عليه السلام في منزلة واحدة في الجنة مهما ارتكب من الكبائر.
فإذاً: ما الذي يمنعه عن ارتكاب الكبائر؟! فهذا المذهب من أفسد المذاهب، وأنا لا زلت في حيرة من أمري، هل هؤلاء القائلون بهذا الرأي فقدوا عقولهم تماماً حتى يتجرأ قائلهم ويقول: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وأنهم في منزلة واحدة في الجنة؟ أما الخوارج فإنهم قاموا على مرتكب الكبيرة وكفروه وغلاتهم كفروا مرتكب الصغائر، أما عامة الخوارج فإنهم يكفرون مرتكب الكبيرة، بخلاف المعتزلة، فإنهم وقفوا من مرتكب الكبيرة موقفاً مخزياً إلى أقصى حد، فقالوا: مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهذا حكمه في الدنيا.
أما في الآخرة فإنه مخلد في النار لا يخرج منها أبداً، كيف ذلك والعقيدة المستقرة بأنه لا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، سواء كان الكفر كفراً أصلياً أو كفر ردة، والمنافقون كذلك، هؤلاء هم الذين يخلدون في النار ولا يخلد أحد غيرهم، فكيف لا هو مؤمن ولا هو كافر ومع هذا هو مخلد في النار؟ وأهل السنة والجماعة يقولون: مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فهم لا ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، كما لا يعطونه م