للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر]

المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد، وهذه المرتبة أخذت بعداً عظيماً في اختلاف الناس، فبعضهم قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، فنقول: إن هذا العبد إما أن يكون خالقاً أو مخلوقاً، ولا أحد يقول بأن العبد خالق، فلا بد أن يكون مخلوقاً، وأفعاله وما يصنعه مخلوق؛ لأنه لا يتصور أن هناك مخلوقاً يكون خالقاً لغيره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته).

فأنت من صنع الله ومن خلق الله، وما تأتي من أفعال من خير أو شر هي بإرادة الله عز وجل، فإذا كانت أفعال شر فإن ذلك بإرادته الكونية القدرية، وإذا كانت أفعال خير فبإرادته الشرعية الدينية، فالله عز وجل خلق إبليس وهو رأس الشر، وهو سبحانه لا يحب إبليس وما يفعله، فلو أن الله تعالى أراد أن يمنع إبليس من إغوائه وإضلاله لمنعه، فإبليس يسول ويغوي ويضل؛ لأن الله أذن له في ذلك.

فإذن الله له لا يعني: أنه يحب ذلك، بل كره الله تعالى منه ذلك، وأوعده وأوعد أتباعه بالنار وبئس المصير يوم القيامة، وكان بإمكان المولى عز وجل أن يمنع إبليس من الإغواء والإضلال، وأن ينور بصائر العباد بعدم الاستماع له، وبأن يكتب عليهم جميعاً الصلاح، لكن لا قيمة للحياة بغير الخير والشر، وإلا لو أراد الله عز وجل أن يجعل جميع الخلق مؤمنين لفعل، ولكن الحياة لا تحلو ولا تجمل إلا بوجود النقيضين ووجود الضدين.

فأنت لا تعرف الصحة إلا بوجود المرض، ولا تعرف الشبع إلا بوجود الجوع، ولا تعرف الخير إلا بوجود الشر، ولا تعرف فضل الجنة إلا بوجود النار، ولا تعرف فضل الملائكة إلا بوجود إبليس، ولذلك خلقه المولى عز وجل وجعل له حظاً ونصيباً من الخلق، وقد ورد في الحديث: (إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها).

فالمرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: هي مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر على السواء، وأن الذي أذن بوجود الخير، وأذن بوجود الشر هو الله عز وجل، أذن فيها وأعان عليها.

فالعبد أحياناً يكون له اختيار، وأحياناً لا يكون له اختيار، بل هو مسير مقهور على ذلك، كعبد يصاب بمرض معين، فهذا المرض من أقدار الله عز وجل، وهو مخلوق لله عز وجل، فهو الذي خلقه، وهو الذي أوجده، وهو الذي صنعه، وهو الذي أذن في وجوده، فالعبد مسير فيه، بمعنى: أنه لا يمكن له دفع هذا المرض.

فلو أنك أبيض اللون والبشرة، وتريد أن تكون أسود؛ هل تستطيع ذلك منذ نشأتك الأولى؟ أو أن تكون أسود وتريد أن تكون أبيض: هل هذا بيديك؟ لا، فهذه الألوان من خلق الله عز وجل، فأنت مقدور عليها مجبور عليها، فقد خرجت لأبوين أسودين أو أبيضين؛ فكنت أبيض أو أسود، ولا اختيار لك فيه، فأنت فيه مسير، وهناك من الأعمال ما يكون الإنسان فيها مسيراً ولا يمكن له الاختيار فيه، ومن الأعمال ما يمكن للعبد فيها الاختيار.

فتصور لو أننا أتينا بملكة جمال ووضعناها في غرفة، وأوقدنا الغرفة المجاورة لها ناراً، وأتينا بأزنى الناس وقلنا له: ازن بهذه المرأة الحسناء، ولكن بعد فراغك من هذه الفعلة القبيحة ادخل تلك الغرفة المجاورة، هل سيرضى الرجل بالزنا مع أنه أزنى الناس؟ لا يرضى به، بل ولا يقوى عليه؛ لخوفه من العقوبة.

فهو يختار ألا يزني إذا رأى عاقبة زناة، فمن الذي خلق فيه هذا الاختيار؟ إن الله عز وجل هو الذي خلق فيه هذا الاختيار، وهو الذي أعانه على أن يختار الخير وأن يختار الطاعة، ولو ترك هذا العبد لاختار المعصية.

وفي حال اختياره للمعصية هل يستطيع أن يزني رغماً عن الله؟

الجواب

لا يستطيع، فنقول: إن الله تعالى أذن في وجود الكفر، وأذن في وجود المعاصي، ولكنه لم يرضها، ولو كانت المعصية والطاعة عند الله سواء فما قيمة بعث الرسل، وإنزال الكتب؟ وما قيمة الدعوة؟ وما قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ بل ما قيمة الجنة والنار؟ فإن الأفعال كلها خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أنه أذن في وجودها، ولكنه رتب على الشر العقوبة، ورتب على الطاعة الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.

ولذلك انعقد إجماع السلف على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، أي: أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن الذي اكتسب الفعل بجارحته هو العبد، فهو الذي قام فصلى وقرأ وركع وسجد على الحقيقة، وهو الذي قام ومشى ووصل إلى موطن الجريمة وأجرم، فالله تعالى أعان الطائع في صلاته، ويسر الطريق ومهده لذلك العاصي.

فهذه المسألة أخذت كلاماً كثيراً جداً سلباً وإيجاباً عند السلف، بل وقبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام.