[اعتقاد الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن عقيدة الإمام العظيم سفيان الثوري، وتكلمنا عن ذلك في سبع مسائل: القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلمنا عن الإيمان، قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم تكلمنا عن اتباع السنن، ومعنى السنن في مسائل العقيدة: هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تكلمنا عن عدم القطع لأحد بالشهادة، وبينا أن هذا يستلزم القطع له بدخول الجنة، وهذا لا يجوز لأحد إلا ما ورد بالنصوص، ثم تكلمنا عن جواز المسح على الخفين مخالفة للشيعة، وتكلمنا عن الإيمان بالقدر، وتكلمنا عن جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر، فهذه هي النقاط الأساسية التي وردت في عقيدة الإمام العظيم سفيان الثوري.
وسنشرع الآن في عقيدة الإمام أبي عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الشامي، وهو إمام أهل الشام بلا منازع.
قال أبو إسحاق: [سألت الأوزاعي فقال: اصبر نفسك على السنة].
أي: وطن نفسك على التزام السنة، وإن وجدت في ذلك المشاق.
قال: [وقف حيث وقف القوم].
أي: كل ما وقف فيه السلف ينبغي علينا أن نقف عنده، وكل ما تكلموا فيه لنا أن نتكلم فيه، وما تورعوا عنه فإن الورع يلزمنا أكثر مما يلزمهم.
[وقل بما قالوا].
وخاصة في باب العقائد، وفي أسماء الله وصفاته، فإنهم آمنوا بها كما جاءت، وأمروها من غير خوض فيها.
[وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم].
قال: [وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة].
أي: بدعة خلق القرآن.
هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ وهذا الكلام إنما نشأ في العراق كما قلنا، وقوله: (وقد كان أهل الشام) باعتباره إماماً لهم.
قال: [حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق]، كما أخذ عمرو بن لحي الأصنام من الشام وأدخلها مكة وقال: اعبدوها؛ لأنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، وكذلك ما من بدعة -وإن كانت كفراً- إلا ولها رواد وأنصار وأتباع.
قال: [حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما ردها عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم].
أي: بعد ما رد فقهاء وعلماء العراق هذه البدعة، ولم يكن لها رواج، وفضح أمر المعتزلة في بلاد العراق، ولما فضحوا وظهر عوارهم، وفساد منهجهم وفكرهم في أسماء الله وصفاته أخذ بعض شياطين الإنس هذه البدعة المفتراة الضالة من العراق وأدخلوها إلى بلاد الشام، فلا بد وأن تجد لها في بلاد الشام أنصاراً وأعواناً.
قال: [فأشربها قلوب طوائف من أهل الشام، واستحلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف فيه].
أي: أن نفس الفتنة التي وجدت في العراق قد انتقلت إلى الشام، ونفس الضلال الذي وقع فيه عامة أهل العراق هو نفس الضلال الذي انتقل إلى بلاد الشام.
قال الإمام الأوزاعي: [ولست بايس أن يرفع الله شر هذه البدعة حتى يصيروا إخواناً] متوادين كما كانوا قبل أن تدخل عليهم تلك البدعة.
قال: [ولو كان هذا خيراً -كأنه ينصح أهل الشام- ما خصصتهم به دون أسلافكم].
أي: ليس معقولاً أن هذا الخير العظيم يخزنه الله سبحانه وتعالى عن نبيه وعن صحابة رسوله ثم أنا أطلعكم عليه! إن هذا لا يعقل.
قال: [فإنه لم يدخر عنهم خيراً خبئ لكم دونهم لفضل عندكم -أي: أنتم لستم بأفضل منهم حتى يخصكم بنعمه حرمهم منها سبحانه وتعالى- وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم وبعثه فيهم، ووصفه بما وصفهم به فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩]].
فهذا ملخص عقيدة الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى، وقد تكلم في قضايا معينة، ولذا ليس بلازم إذا سئل الإمام عن عقيدته أن يسرد جميع مسائل العقيدة، بل يذكر المسائل التي ينبني عليها العمل، أو التي تموج بها البلاد، أو التي ظهرت بها الفتنة، كالمسائل التي كانت غائبة عن أهل الشام ودخلت إليهم من قبل أهل العراق، فبين لهم الأوزاعي أنهم على الجادة في كل شيء، إلا في هذه المسألة، فإنهم قد خرجوا عن الهدى وعن الصراط المستقيم.