[بيان أنه لا تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح]
ناقشني رجل فقال: يرحم الله فلاناً فإنه كان يشن الغارة على السلفيين، وهو خبر القوم، وعلم فساداً من هديهم وفساد قلوبهم.
قلت: أما يرحمه الله فإنا نسأل الله أن يرحمه، وأما أنه خبر القوم، فوالله ما خبرهم ولو خبرهم لتبعهم، بل منعه كبره أن يقبل الحق وأن يتبع شباباً صغاراً في سن أولاده وهو عالم كبير في الأزهر، وكان يغتاظ أشد الغيظ إذا سمع كلمة سلفي أو كلمة سنة.
قلت: أليس هو الذي رد حديث الذبابة وهو في الصحيح؟ قال: نعم.
ثم قلت: أليس هو الذي رد حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم.
هذا لا يليق بجناب النبوة.
قلت: النبي أعلم بجناب النبوة منك، فهو الذي أخبر أنه سحر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الطبيب الأول الذي أخبرنا أن الذبابة إذا وقعت في شراب أحدنا فليغمسها في هذا الشراب فإن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء، وأنت لا تدري بأي الجناحين سقطت هذه الذبابة، فمن باب الاطمئنان ودفع الوسواس أن تغمسها، فإذا كان جناحها الذي يحمل الداء هو الذي سقط عالجه الجناح الآخر؛ لأن فيه الدواء، وإن كان الذي سقط فيه هذا الشراب هو الجناح الذي فيه الدواء فإن غمس الجناح الذي فيه الداء لا يضره، ثم إني قلت له في نهاية المناقشة: من الذي أبلغك أن أبا بكر رد هذا الكلام؟ قال: لا أحد.
قلت: وعمر؟ قال: لا.
وعثمان؟ قال: لا.
والشافعي؟ قال: لا.
وأبا حنيفة؟ قال: لا، قلت: ما تقول في هؤلاء، أليس هم علماء الأمة؟ ومن الذي يقول بما تقوله الآن؟ قال: المعتزلة.
فقلت: رضيت لنفسك ولدينك أن تكون متبعاً لمنهج المعتزلة وهم الخلف.
قال: لأن هذا الكلام غير معقول.
قلت: العقل ليس مصدراً للتشريع، بل الكتاب والسنة حاكمان على العقل، هاديان له، مرشدان له إلى طريق الحق والخير، فأنت جعلت عقلك حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يعقل.
ثم قلت: أتظن أنك العاقل الوحيد؟ قال: لا وأنت أيضاً يا شيخ عاقل؟ قلت: إذا كانت المسألة مسألة عقول فإن عقلي يقبل كل خبر جاء في كتاب الله أو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام سواء علمت معناه أم لم أعلمه، علمت حقيقته أم لم أعلمها، فإن عقلي يأمرني بذلك، وأنت عقلك يرد هذا، فهل يتصور أن يكون الله عز وجل جعل العقل حاكماً على الكتاب والسنة؟ أنت اليوم عاقل وغداً لست عاقلاً، فأنت اليوم تقبل خبراً وغداً ترده، والخبر الذي تقبله بعقلك أنا أرده بعقلي والعكس بالعكس، فلا يصح أن يكون العقل المتغير الموصوف بالعجز والنقص والضعف حاكماً على الكتاب والسنة.
نعم.
الله تبارك وتعالى خاطب العقل وكلفه بأعظم تكليف أن يؤمن بهذا الكتاب، وأن يتدبر في آيات الله عز وجل؛ لأن العقل المخاطب هو العقل السليم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ).
لأن هؤلاء الثلاثة لا عقول لهم، ولذلك لا يقعون في دائرة التكليف، والشرع لم يكلف هذه العقول أن تمعن النظر؛ لأنها لا نظر لها، فكيف تجعل من عقلك حكماً على الكتاب والسنة؟! ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل: لا يوجد أبداً تعارض بين النقل والعقل، وإن كنا أحياناً نشعر بوجود تعارض، فالنقل الصريح في الكتاب والسنة يتفق مع العقل الصحيح السليم من كل آفة وهوى وابتداع وزيغ وانحراف عن الحق.
وإذا لم يوافق العقل الشرع فلابد أن تكون هناك علة، هذه العلة ليست في دين الله عز وجل، وإنما هذه العلة إما أن تكون بفساد العقل، وإما أن تكون في ضعف النقل كأن يكون الحديث ضعيفاً، ثم ذكر مثالاً على ذلك، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب.
قال: وما اكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة).
وحديث آخر من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).
وهذا الحديث يحتج به الصوفية، فيقال: إن التعارض واقع بين هذين الخبرين، فإما أن يكون الجمع بينهما ممكن، وعقلي هو الذي قصر لفساد فيه وجهل فيه عن الجمع بين الدليلين، وإما أن يكون العيب في عدم ثبوت واحد منهما، فلما فتشنا علمنا أن حديث القلم هو الصحيح، وأن حديث: (نور نبيك يا جابر) حديث موضوع، فلما علمنا بوضعه استبعدناه فلم يبق لنا إلا خبر واحد: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) فليس عندي في هذه المسألة إلا خبر واحد، فلابد أنه سيتفق مع عقلي تمام الاتفاق، لأن النقل صريح، والعقل صحيح، ففي هذه الحالة ليس هناك تعارض أبداً.
ولذلك فإن ابن خزيمة إمام الأئمة رحمه الله تعالى، صاحب كتاب التوحيد وهو كتاب عظيم جداً، قال: ما من دليلين ترون أن بينهما ت