[الأعمال التي تنقص من الإيمان أو تسلبه بالكلية]
فقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، أي: لا يستوي قط من سب مسلماً ومن لم يسب، ولا من قاتل مسلماً ومن لم يقاتل، فالذي لم يقاتل يستحق المدح، والذي قاتل وسب يستحق الذم، وذمه إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون فاسقاً، فالسباب فسوق، أما القتال فمنه ما هو فسوق إذا كان كبيرة، ومنه ما هو كفر إذا استحل ذلك بعد قيام الحجة عليه.
قال: [وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: الكذب يجانب الإيمان]، يعني: الكذب لا يمكن أن يتفق قط مع الإيمان؛ لأن الكذب كبيرة من الكبائر، خاصة الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (آية المنافق ثلاث -يعني: علامة المنافق ثلاث- إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وفي رواية: (وإذا عاهد غدر).
والمعلوم أن الواحد منا يكذب، ويعد ولا يفي، ويؤتمن ويخون، وغير ذلك من الخصال المذكورة في الحديث، فهل الواحد إذا كذب في حديثه يكون منافقاً؟ أنتم تعلمون أن النفاق أشد خطورة من الكفر البواح؛ لأنه يبدي ويظهر خلاف ما يبطن، فيأمنه الناس على دينه، وهو في حقيقة الأمر غير أمين على شيء، فخطورته عظيمة جداً.
وهذا الحديث قال فيه أهل العلم: أنه ورد بصيغة الاستمرار (إذا) التي تفيد الاستمرار، فقوله: (إذا حدث كذب) قالوا: الغالب عليه في حديثه الكذب، فقل أن يصدق، فهو مثل الشيطان الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، لأنه ليس له مصلحة في هذا الموطن أن يكذب فصدق حتى يأخذ النوال والعطاء.
فلما دعته المصلحة الشخصية للصدق صدق، لكن الأصل فيه أنه كذوب، فقوله: (إذا حدث كذب)، يعني: مستمر وقائم ومداوم على الكذب، حتى إن الناس يشيرون إليه بأصابع الاتهام: إن فلاناً هذا كذاب فلا تصدقوه.
على عكس ما كانوا يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فالصدق اسم مدح، والكذب اسم ذم، ومن وقع في الكذب استحق الذم، ومن تلبس بالصدق استحق المدح، فالصادق والكاذب لا يستويان، هذا مذموم وذاوك ممدوح، هذا في الجنة وذاك في النار.
فالكاذب في أثناء ما يحدثك هو يكذب ويعلم أنه يكذب ومستمر على الكذب ومصر عليه.
وإذا استحل الكذب كفر، وإذا كان مداوماً عليه غير مستحل له فإنه فاسق مرتكب لكبيرة عظيمة من الكبائر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا وعد أخلف) أي: كما أنه إذا وعد أخلف، وحرف (إذا) يفيد الاستمرار، يعني: هذا الإنسان معلوم عند الناس أنه لا يفي بوعد قط، بل في أثناء وعده إياه بعمل الشيء أو باللقاء في المكان الفلاني هو غير ناو الوفاء، لأنه يخلط بين الكذب في الوعد وبين خلف الوعد في أثناء الوعد، وكذلك (إذا عاهد غدر).
وهذه الخصال كانت في الجاهلية مذمومة، فـ أبو سفيان رضي الله عنه لما كان مشركاً كافراً وسأله هرقل عظيم الروم عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصدق في كل جواب رداً على هرقل ويقول: (لو لم تعدها علي العرب كذبة لكذبت) يعني: هو خائف أن العرب تقول: أبو سفيان كذاب، لأجل كذبة واحدة.
وكذلك مسألة الجوار، فقد كان الجوار معروفاً في الجاهلية، فإن الواحد منهم كان يفعل الفعلة أو يأتي من بلاد بعيدة وينزل على فلان من الناس عظيم أو شريف من الشرفاء ويقول له: أدخلني في جوارك، أو ارحمني، فلا يمكن لأحد قط أن يمسه بأذى إلا أن يخرج من الجوار، وكانوا يحترمون هذا ولا يغدرون به قط.
أما هذا الوقت فإن فيه من التفريط والإهمال والمعاصي والمنكرات التي تسربت إلى أبنائنا لما تشربوها من آبائهم وأمهاتهم، فعندما يقول القائل: أنا في جوار ربنا، فإن الخصم ينتقم منه أشد الانتقام، لا يراعي جوار الله، ولا جوار الشرع ولا أصل الأصول ولا أي شيء، وهذا يدل على أنه إذا عاهد غدر، يعني: بعدما يدخل بجواره يقتله وهذا غدر، فلا يمكن قط أن يستوي صاحب هذه الخصال مع من يأتي بنقيضها مما يأمر به الإيمان.
[وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء وأبي هريرة وعقبة بن عامر الجهني والحسن وعطاء وأبي جعفر الباقر والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ممن تقدم وممن لم يأت.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، فقوله: (حين) يعني: في وقت زناه يسلب عنه الإيمان، وكذلك في وقت السرقة يسلب عنه الإيمان ثم يعود إليه، لكن لا يعود إليه الإيمان إلا إذا تاب، ولكنه لا يخرج من حظيرة الإسلام إلا إذا استحل هذه المعصية اعتقاداً، سواء عمل بها بالجارحة أو لم يعمل.
قال: [(ولا يغل