للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معجزة حنين الجذع]

لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد أرضاً لأخواله من بني النجار فيها قبور مشركين قديمة فنبشها ونقلها، ثم بنى النبي عليه الصلاة والسلام المسجد النبوي في هذه الأرض، وكان بين المقابر نخيل، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام أعمدة المسجد عبارة عن هذه النخيل، وكان يسقف المسجد بالجريد.

فالجذع هو أحد أصول النخل التي كانت في قبلة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه قطعها حتى يقف عليها مرتفعاً ليخطب في الناس، وهذا من السنن الثابتة: أنه يسن للمتكلم أن يجلس في مكان مرتفع حتى يراه الناس، عمل بهذه السنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأمر بها، وعمل بها خلفاؤه، وكل من تكلم على مشروعية ذلك وسنيته.

قال: [عن ابن عمر: (أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع -إما مستنداً عليه، وإما واقفاً فوقه- فلما اتخذ المنبر تحول إليه -أي: تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى الوقوف على هذا المنبر وترك الجذع- فحن الجذع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه)] يعني: هذا الجذع حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واحتضنه ومسحه حتى سكن وهدأ.

[وعن ابن عمر: (أن تميم الداري لما ثقل النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: يا رسول الله! ألا أتخذ لك منبراً؟ -يعني: ألا أصنع لك منبراً- يحمل عظامك أو يجمعك)] والخطيب غالباً يريد شيئاً يجمعه، ولذلك إذا جلس في مكان على قدر بدنه فإن ذلك يفيده أفضل من أن يجلس في العراء، ولعله إذا أراد أن يجلس وقع أو زلت مقعدته، أو قدمه، بخلاف ما لو كان له مكان محكم يجلس فيه إذا مال يمنة أو يسرة فإنه لا يخشى عليه الوقوع والسقوط؛ لأن المنبر يحوطه من جميع الجوانب، ولذلك قال تميم: [(ألا أتخذ لك منبراً يحمل عظامك أو يجمعك، فاتخذ له مرقاتين، وكانت سواري المسجد جذوعاً وسقايفها جذوعاً) يعني: الأعمدة التي هي السواري كانت جذوع نخل، وكذلك سقف المسجد كانت عليه جذوع أخرى وأعمدة من النخيل، ثم بعد ذلك كان عريشه من الأوراق والقش وغير ذلك.

[وعن ابن عباس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، فحن الجذع فاحتضنه فسكن).

وقال أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد، فجاء رومي -في اسمه اختلاف كثير، والراجح أن اسمه: ميمون - فقال: ألا نصنع لك شيئاً تقعد عليه فكأنك قائم؟ فصنع له منبراً درجتين، ويقعد على الثالثة)]، وهذا يدل على أن المنبر ثلاث درجات اثنتان يرقاهما الخطيب، والثالثة يجلس عليها، قال: [(فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خار الجذع كخوار الثور -يعني: أخرج صوتاً يشبه خوار الثور- حتى ارتج المسجد لخواره؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن، ثم قال: والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة) حزناً على رسول الله عليه الصلاة والسلام].

كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة حتى للجمادات، أما عن كونه جماداً ويعقل فدليل هذا قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤] كل هذا من خوارق العادات التي جرت على يديه عليه الصلاة والسلام.

[وعن أنس قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبراً، قال: فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -أي: تئن وتحن حنين الحزين الواله الشفيق- فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام فاحتضنها فسكتت)، وكان الحسن بن أبي الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول عليه الصلاة والسلام شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.

وعن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع، إذ كان في المسجد عريشاً، وكان يخطب إليه، فقال له رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك عريشاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس ويسمعوا خطبتك؟ قال: نعم، فصنعوا له ثلاث درجات هي التي على المنبر -أي: هي التي عليها المنابر إلى يومنا هذا- فلما صنع المنبر ووضع في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه حن الجذع حتى سقط، فرجع رسول ا