[كلام ابن تيمية في إثبات صفتي المجيء والإتيان]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: وإذا قيل: الصعود والنزول، والمجيء والإتيان أنواع جنس حركة.
قيل: والحركة أيضاً أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، والروح تتحرك في البدن، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يصف الروح التي هي بين جنبيك، وتتحرك فيك بالليل والنهار وأنت نائم ومستيقظ، فكيف تصف صفات المولى تبارك وتعالى؟! وكذلك الملائكة لها حركة، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، فالذين يقولون: إن إتيان الرب تبارك وتعالى يستلزم الحركة والانتقال والحيز، نقول لهم: ليس ذلك بلازم، فهناك بعض المخلوقات تتحرك دون حيز، كما يراد بالحركة أمور أخرى كما يقول كثير من الطبائعية والفلاسفة، منها: الحركة في الحكم كالحركة في النمو، فمثلاً تقول: فلان ينمو ويتحرك دائماً.
والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، كأن تقول لابنك: يا بني! تحرك قليلاً؛ لما ترى ما يكتب له في الشهادة وهو راسب، أو درجاته قليلة، فتقول له: تحرك.
فأنت لا تقصد بقولك هذا أن ينتقل من حيز إلى حيز، أو من مكان إلى مكان، وإنما تقصد أن ينتقل بكيفية أخرى، وهي أنه يعلو من الجهل إلى العلم، وحركة اللون من سواد إلى بياض، والحركة في الأين فليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز، فإذا كانت حركة المخلوقات لا تستلزم الانتقال وخلو المكان الأول، فهي من باب أولى في جنب الله عز وجل، وفي نزول الله عز وجل، وقد قلنا فيما مضى: إن بعض الناس يتوهم أن نزول المولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل لا يستلزم خلو العرش منه، وأن العرش والسماوات من فوقه فيكون سبحانه محصوراً بين خلقه، فهذا كفر وضلال لمن قال به.
لكنهم أرادوا أن يلزموا أهل السنة الحجة بذكر هذا الكلام السخيف التافه؛ لأنهم يعلمون من أنفسهم أن الواحد منهم إذا كان في مكان عال ونزل يلزم من ذلك خلو المكان العالي منه، فقاسوا أنفسهم على الله عز وجل، وقاسوا الله تعالى عليهم، وهذا ضلال مبين.
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن يسكتوا عما سكت عنه الله تعالى، وسكت عنه رسله وأنبياؤه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب، ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وبالوجه واليد ونحو ذلك: إن هذا يقتضي التجسيم؛ لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فنحن لا نعرف واحداً يوصف بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وله وجه، وله يد وله عين وغير ذلك إلا أجسام محسوسة أمامنا.
ولذلك ينفون عن الله عز وجل هذه الصفات، فيقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، فينفون عن الله تعالى كل شيء أثبته لنفسه إلا سبع صفات، وهذا اضطراب؛ لأننا قلنا: إن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات، كما أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فالذي يريد أن يتكلم إما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا سكت وآمن وسلم فهذا هو مذهب السلف، وإذا تكلم إما أن يتكلم بكلام السلف، وإما أن يتكلم بغير ذلك فيكون من الخلف.
والذين يقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، هم النفاة، لكنهم يثبتون لله تعالى الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام.
لكن: يقال لهم: أنتم تقولون: ليس له يد، وليس له ساق، وليس له عين، ونفيتم عنه تبارك وتعالى جميع الصفات الذاتية، فكيف يتصور وجود ذات بلا صفات؟! فقالوا: نحن نثبت له صفات معينة، وهي: صفة الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام؛ لأنها قد وردت في القرآن والسنة.
فإن قيل لهم: والصفات الذي قلناها أيضاً في الكتاب والسنة؟ قالوا: لا.
لأن إثباتكم لهذا الكلام يستلزم التشبيه.
فنقول لهم: لا، فنحن وسط بينكم وبين غيركم، فأنتم تنفون صفات الله عز وجل وتقولون: هذا تنزيه لله عز وجل؛ حتى لا يكون شبيهاً بالمخلوقات.
وغيركم يقول: لا.
نحن نثبت لله تعالى هذه الصفات لكن لا نعلم منها إلا ما نعلمه من أنفسنا.
أي: أن له يداً كيدي، وعيناً كعيني، ثم في النهاية هو رجل مثلي، فإذا كانت صفات المولى عز وجل مثل صفاتي، ففي النهاية هو مثلي بالضبط؛ لأنني إذا تكلمت في الصفات فأنا أركبها في الذات، وهذه الذات لا يصلح أن تتركب إلا في ذات تدخل في تصورك أنت، وهو شخصك، وهب أن الذي تكلم بهذا الكلام امرأة -لا بد من هذا الطرح أيضاً- فإذا كنت لا تفهم من صفات الله إلا ما تفهمه من صفاتك أنت فلا بد أن هذا المعتقد سيسود الرجال والنساء، فهل تقبل أنت كرجل تثبت هذه الصفات بالمماثلة والمشابهة مع صفاتك أنت من امرأتك، أو أمك، أو أختك، أو ابنتك أن تقول: إن الله تعالى مثلي تماماً، فذاته كذاتي، وصفاته كصفاتي؟! معاذ الله! فأنت نفسك لا تقبل هذا، فلم تقبل أن تشبه الله تبارك وتعالى بذاتك ونفسك؟! لا بد أن تثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه على مراده هو، بالكيفية والوجه الأكمل اللائق به سبحانه وتعالى.
وهؤلاء المثبتة ردوا على النفاة، والذين ينفون عن الله صفاته ردوا عليهم بأنك