[ترفع السلف عن كلام المرجئة]
قال: [قال أبو المليح: سئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك]، يعني: أنا أكبر من أن أتكلم في كلام المرجئة، يعني: كلامهم سخيف ليس عليه أحد من سلف الأمة، ولذلك أنا أجل نفسي أن أتكلم فيه.
قال: [وعن قتادة قال: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث]، وابن الأشعث مات في سنة (٨٢) في قتال دار بينه وبين الحجاج بن يوسف الثقفي.
قال: [وقال جرير: ذكر الإرجاء عند سليمان بن مهران الكوفي الأعمش فقال: ما ترجو من رأي أنا أكبر منه]، يعني: لا أتكلم في مثل هذا؛ لأنه أسخف من أن نتكلم فيه.
قال: [قال جرير: وكان المغيرة يقول: أخبرنا حماد بن أبي سليمان قبل أن يصير مرجئاً، وربما قال: حدثنا حماد من قبل أن يفسد]، فالمؤلف في هذا الباب يريد أن يقول: إن الإرجاء قديم جداً في القرن الأول الهجري؛ لأنه يذكر عن أبي وائل وحماد بن أبي سليمان، وكل هؤلاء من أبناء القرن الأول الهجري.
قال: [عن المغيرة قال: لم يزل في الناس بقية -أي: بقية خير- حتى دخل عمرو بن مرة في الإرجاء، فتهافت الناس فيه].
وعمرو بن مرة هو المرادي، وكان رجلاً عابداً صالحاً أثنى عليه العلماء، وإنما عيب عليه دخوله في الإرجاء، حيث كان دخوله في الإرجاء فتنة عظيمة جداً لغيره، فمثله في علمه وفضله وصلاحه إن أظهر قولاً أو عمل عملاً فإنه يؤثر في اتجاه العامة.
فـ عمرو بن مرة المرادي على جلالة قدره وعلو منزلته في العلم والعمل والزهد والعبادة والصلاح والتقوى دخل في الإرجاء، وكان قد بلغ منزلة في العلم والعمل لم يبلغها أحد في زمانه، فلما دخل في الإرجاء ظن العامة أن الإرجاء حق، فلما زلت قدم عمرو بن مرة المرادي في الإرجاء زلت بزلته أقدام كثيرة، ولذلك دائماً أهل العلم يقولون: زلة العالم بزلة عالم، ودائماً كلام وعمل أهل العلم محسوب عليهم.
وأنا لست من أهل العلم، وأحد ضباط الجيش كان صديقاً لي منذ أن كنا أطفالاً رضع، فهو ينظر إلى عملي ولا يسألني، ففوجئت بوالده -وهو بلدي- يقابلني في المنصورة، ويقول: يا شيخ حسن! أريد أن أسألك سؤالاً وأرجو ألا تتحرج مني وأن تجيبني بصراحة، فقلت له: تفضل، قال: المرآة حلال أم حرام؟ قلت: المرآة حلال، ومن الذي حرمها؟ فسكت، قلت له: لابد أن تخبرني؛ لأن في بلادنا جميع أنواع البدع، فأريد أن أعرف من القائل، قال: إن هذا الكلام منقول عنك، قلت: منقول عني؟ قال لي: قاله ابني علي، فقابلت علياً وهو عقيد في الجيش، يعني: أنه ليس بسيطاً، فقلت له: يا علي! أنا حرمت المرآة؟ فاصفر وجهه، وقال: يا شيخ! أنا دائماً أدخل عندك وأنت تدخل عندي وعندما أدخل عليك لا أرى عندك مرآة قط، قلت: وهل يلزمني أن أضع المرآة في غرفة الضيوف؟ وأدخلته غرفة النوم وغرفة الأولاد وهنا وهنا، وقلت له: انظر، عد المرايا، بل الدولاب في غرفة النوم في داخله مرايا، حتى إذا لبس الشخص الملابس لا يتكلف الذهاب إلى مرآة أخرى.
فهذا حرم المرآة على أهل بيته؛ لأنه لم يسأل، وإنما رأى أن أحداً ممن يظنه من أهل العلم لا يوجد عنده مرآة، فظن أنها محرمة، ودائماً العلماء يقولون: العامة يتورعون في الحلال والحرام، وأما أهل العلم فيجب أن يتورعوا في باب المباح؛ لأن الناس ينظرون إليهم على أنهم القدوة والأسوة والمثل الأعلى.
فينبغي على أهل العلم أن يحتاطوا دائماً في أقوالهم وأفعالهم، ويتورعوا عن المباح؛ مخافة أن يقع الناس فيما هو أعظم من ذلك وشر.
قال: [قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة، يعني: أنا أكبر من أن أصاحبهم وأجالسهم وأتكلم فيهم.
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: الحسن بن محمد بن علي أمه جمال بنت قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي أول من تكلم في الإرجاء.
وقال مسعر: رأيت مسلم البطين يهجو المرجئة، يعني: يقول فيها شعراً يذمها، فقلت له: سبحان الله! وقال عبد الله بن نمير: سمعت سفيان وذكر المرجئة، فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره]، رأي محدث، أي: مذهب المرجئة مذهب محدث، رأيت الناس -أي: سلف الأمة- على غير هذا.
قال: [قال الحسن بن وهب الجمحي: قدم علينا عبد العزيز بن أبي رواد وهو شاب يومئذ ابن نيف وعشرين سنة -وكان من العلماء الصالحين جداً ومن العباد والثقات الأثبات في الرواية- فمكث فينا أربعين أو خمسين سنة لا يعرف بشيء من الإرجاء -يعني: لا أحد يعلم عنه أي خلل في اعتقاده- حتى نشأ ابنه عبد المجيد -يعني: حتى