[سياق ما روي في أن المسلمين إذا دلوا في القبر سألهم منكر ونكير وأن عذاب القبر حق]
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم -أي: إذا أنزلوا في المقابر- يسألهم منكر ونكير، وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب].
قوله: (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم).
معنى ذلك: أنه يتناول عذاب القبر فيما ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بسنده.
قوله: (في أن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير).
في الحقيقة أن منكراً ونكيراً إنما يسألان كل من أدخل القبر سواء كان مسلماً أو كافراً، وكأن المصنف رحمه الله قاس هنا قياساً أولوياً مع وجود النص أن المسلم إذا نزل في قبره يسأل سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية، فإذا كان قد تقرر في الأذهان أنه سيسأل في قبره عن عمله وعن إيمانه بالله وبالرسول وبالشريعة وغيرها، فمن باب أولى أن يسأل الكافر.
قوله: (وأن عذاب القبر حق، وأن الإيمان به واجب).
يعني: عذاب القبر حق بل هو أصل أصيل من معتقد أهل السنة والجماعة، ونقول: من معتقد أهل السنة والجماعة؛ لأن الخوارج والمعتزلة نازعوا في ذلك، كما قال أبو الحسن الأشعري: اختلفوا في عذاب القبر، فمنهم من نفاه وهم المعتزلة والخوارج.
أي: قالوا: ليس هناك شيء اسمه عذاب القبر.
ومنهم من أثبته، وهم أكثر أهل الإسلام.
أي: أهل السنة قاطبة يثبتون عذاب القبر، وبعض أهل البدع أثبت عذاب القبر، ومنهم من زعم أن عذاب القبر وإن كان حقاً إلا أنه ينزل على الروح دون البدن، كما قالت طائفة: إن المعراج إلى السماوات السبع كان بالروح دون الجسد، وهذا كلام في غاية البطلان والسقوط سواء من جهة النص الشرعي أو من جهة النص اللغوي، فالآيات والأحاديث التي وردت والوقائع والأحداث التي تمت في أثناء رحلته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ومنها إلى السماء السابعة ثم العودة، كل هذه لا يمكن أبداً أن تدل على أن المعراج كان رؤية منامية، أو كان بالروح فقط دون الجسد، فكما اختلفوا في هذه المسألة كذلك اختلفوا في عذاب القبر.
أما أهل السنة والجماعة فعلى مذهب واحد دون خلاف فيه: أن عذاب القبر حق، وأن الإيمان به واجب، وأن عذاب القبر إنما يكون على الروح والجسد.
وظن هؤلاء الذين يقولون بأن العذاب إنما هو على الروح فقط دون الجسد بما عندهم من شبه أنهم قادرون على أن يردوا على أهل السنة والجماعة قولهم، فقالوا: إذا كان العذاب يلحق الجسد فما بال المرء لو أنه غرق في بحر فأكله السمك؟ أو أن سيارة دهسته فمسح بالأرض تماماً وانتهت آثار بدنه؟ وما بالكم بمن يموت حرقاً؟ فكيف تقولون: إن العذاب يقع على جسده مع أن السمك أكله ومع أن النار أحرقته؟
الجواب
إن الله على كل شيء قدير، هذا لمن آمن بالله عز وجل؛ فالله تعالى قادر على أن يجري العذاب على البدن حتى وإن لم يوجد البدن.
والسبب في هذا الانحراف العقدي الذي جعل الخوارج والمعتزلة ينكرون عذاب القبر سواء الذين أنكروه منهم على الروح أو البدن، أو من قال بإثبات عذاب القبر على الروح فقط، فسبب هذا الانحراف أنهم حكموا عقولهم في الأمور الغيبية؛ لأن ما بعد حياة الإنسان غيب، كما أن ما قبل حياة الإنسان غيب، فحياة الجنين في بطن أمه لها قوانين تحكمها حيث لا طعام ولا شراب ولا نفس ولا هواء ولا غذاء ولا شيء من هذا، إلا ما قدره الله عز وجل والذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، فإذا كان القانون الذي يحكم حياة الجنين غيباً عن المرحلة التي تأتي بعد ذلك -أي: بعد الولادة- فكذلك الحياة التي تكون بعد الموت غيب، وتحكيم العقل في الغيب لابد أن يذهب بصاحبه إلى التيه والحيرة والضلال؛ لأن الإنسان لا يعرف من علمه ومن حياته إلا ما يعلمه من نفسه وممن يعيش معه على هذا الكون، ولا يمكن قياس الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة، وإذا كان الله عز وجل إنما جعل الأمر أمران: غيب وشهادة؛ فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، فإنما سمى الغيب غيباً لأنه غيب عنا، أما الله عز وجل فهو عالم الغيب والشهادة، فإذا أخبر الله تعالى أنه يعذب بعد الموت في القبر وقبل الحساب وقبل البعث آمنا بذلك وسلمنا، ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذب الجنين في بطن أمه لصدقنا وآمنا؛ لأننا لا نعلم عن هذا الغيب شيء، فيجب أن نسلم وأن نؤمن بهذه النصوص ولا نرد شيئاً من ذلك.
قال شارح الطحاوية: قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد